ط
مسابقة القصة القصيرة

حقول الألغاز . مسابقة القصة القصيرة بقلم / أحمد شرقى . المغرب


مسابقة مجلة همسة للقصة القصيرة
أحمد شرقي/ المغرب
قصة قصيرة: حقولُ الأَلْغَازْ
تركت (سيلين) باكية في باريس، لم تتقبل رجوعي إلى البلاد وغيابي عنها لمدة شهر كامل ولأول مرة، كما أنني لم أستسغ أمر سماحها لي بالسفر إلى المغرب، فأبي وأمي توفيا، لا إخوة لي ولا أقارب، لمن سأذهب في المغرب وبمفردي؟ هكذا كانت تحتج في كل عطلة شممَت فيها رائحة استعدادي للسفر، فتدفعني عَبَراتها إلى صرف النظر عن الرحيل، أما الآن فلم يعد يشجعني شيء ما على التشبث بمدينة الأنوار، حتى الأولاد لم يَجُد علينا حُبّنا بهم بعد سبع سنوات من الزواج. بادلتها نفس الحسرة والتأسف، لكني في دخيلة نفسي كنت مسرورا، فبعدَ عشر سنوات من الاغتراب والتمرغ في عسل بلدان الناس -منعدم المذاق- والعمل مستشارا قانونيا في إحدى الشركات، حان وقت العودة إلى الأصل وعناق أبناء قرية الجِنان الذين لم يتبق لي من الأهل غيرهم بعد رحيل الوالدين ونكران الأقارب. وصولي إلى المغرب كان في العاشرة صباحا كما كان مكتوبا في ورقة الإركاب، وأنا أمام شرطي المطار، كنت مبتسما في وجهه، لم يخف استغرابه وقال لي إنني أول مسافر يأتي إلى المراقبة ضاحكا، فمعظم المسافرين يصِلون مرهقين ليست لديهم قدرة الصبر على الوقوف والانتظار حتى تتم مراقبة الجوازات. كان الشرطي الشاب قد استرسل في الحديث، في الوقت الذي زاغت فيه ذاكرتي وهربت بي إلى الطفولة البريئة في القرية، حيث ذكرني هذا المراقب بموسى، الذي كنا نلقبه ساخرين ب(الربّان)، فقد كان يوصلنا على متن عربته التي تجرها دابّة إلى المدرسة كل يوم ذهابا وإيابا، مقابل نصف درهم للتلميذ، كان تلميذا أيضا، لكنه غادر الفصول الدراسية مبكرا، لم يكن يحب وصفه بالربان، “سأكون شرطيا في المستقبل” كان يصرخ في وجوهنا في كل مرة. مدّ لي الشرطي جواز سفري الفرنسي ملاحظا سهوي وعدم استيعابي لما كان يقول، ابتسم وودعني: _ ” على سلامتك سيدي، الله يخليك ديما ضاحك”. حملت حقيبتي من بين مئات الأمتعة، وغادرت بخطى متثاقلة وأنا شارد الذهن تسيطر على تفكيري ذكريات أصدقاء الصبى، موسى ومحمد الذي كان يحلم بأن يصبح طبيبا، و العربي الذي كان يمني النفس أن يعمل صحفيا ويقدم نشرة الأخبار، تركتهم في السنة الأولى بكالوريا باستثناء موسى، وربما حققوا أمانيهم أو على الأقل جزءا منها، خصوصا العربي، فقد كان طموحا ذا نباهة. في باب المطار تهافت علي أصحاب سيارات الأجرة الكبيرة، أحسست وكأني نجم سينمائي يتبختر في السجادة الحمراء لمهرجان “كان”، وقع اختياري على رجل لا يظهر عليه جشع الآخرين، حيث لم يلح علي ولم يزعجني بأدبه وترحيبه المبالغ فيهما. _إلى أين سيدي؟ _ ضواحي الدار البيضاء وبالضبط قرية الجِنان ! _تفضل اطلع ثم حمل الحقيبة ليضعها في الصندوق الخلفي لسيارته، لكن ما أثار دهشتي هو أنه لم يناقش معي ثمن الرحلة ولم يتساوم كما الآخرين، بل سألني سؤالا واحدا محرجا لم يكن في الحسبان: _هل تعرف يا ولدي لماذا سُميت قرية الجنان بهذا الإسم؟ ثم انطلق. أصابني خرس وحرج مفاجآن غيّبا ابتسامتي، فمن المفروض أن أكون على بينة من الأمر، لكن الرجل استشعر ذلك وأجاب مكاني: _سمي بهذا الإسم لأن الحقول الفلاحية التي كانت في القرية لم تكن في أي مكان آخر، كانت عنوانا للخيرات والعمل وحب الأرض، وكان لكل دار حقل كبير تسهر عليه، فيه كل ما لذ وطاب من الخضر والفواكه.. لكن اليوم للأسف.. لم أكن مستعدا لاستمرار هذه النبرة الحزينة في السرد، فلا أريد أن يعكر شيء ما فرحتي، طلبت منه بلطف إشعال المذياع، وهكذا كان حيث أكملنا طريقنا إلى الوجهة المعلومة -ومن الصدف- على نغمات موسيقية مختلفة. بعد حوالي ساعة ونصف من الطريق، وعند وصولنا، نطق الرجل مُبشّرا: _لقد وصلت بالسلامة سيدي، ولا تعطني شيئا، أنا أسكن في هذه القرية وسوف أوقف (التاكسي) على مقربة من هنا لأدخل عند أولادي…وللإشارة فأنا أعرف المرحومَين حق المعرفة ، مع السلامة يا ولدي. لم أُعلّق وغادرت السيارة بهدوء ودون شكر حتى، فغرابة هذا الرجل وكرمه أثارا استغرابي. بمجرد ما لامست قدماي تراب القرية، اخترقت أنفي رائحة الأرض، سيما عندما تستقبل قطراتَ الندى صباحا، رحل كياني طواعية إلى زمن بعيد قريب، حين كنت أتقن فن المشي في الوحل، حين كنت أرعى الأغنام وأغني لها، وحين كنت أستمتع شتاءً بسمفونية السقف القصديري وأنا تحت البطانية. مَسَحْت القرية بعيني مطولا، مستنتجا أن الحقول الملونَةَ بالخيرات فقدت رونقها وتحولت إلى حقول لخلط الإسمنت وبيع الخرسانة، وجوه غريبة تؤثث الفضاء هنا، رواج مختلف، لم يلق علي أحد السلام، ولم يستقبلني أحد كما وقع في باب المطار، شعرت وكأنني غبت مائة عام، قصدت على عجل مقهى الحاج الطاهر على أمل اللقاء بواحد من أصدقاء الماضي، أو بالأحرى علّي أجد المقهى في مكانه. لم أكن يوما ما من زبناء الحاج الطاهر، لأني لم أكن من محبي الجلسات الفارغة والدواخن الخانقة ولعبة الورق، توجهت نحوه فقط لأني على يقين أن واحدا على الأقل من الأصدقاء هناك. على بعد أمتار من المقهى، لمحت فراغا رهيبا على غير العادة، لا ضجيج ولا دخان، تقدمت ببطء كمن يمشي حذرا في حقل ألغام، كراسي فارغة وزبون واحد ، حتى الحاج صاحب المقهى الذي كان يخدم الزبناء شخصيا لا وجود له. زبون واحد لا أرى منه سوى ظهره ورأس مغروس بين كتفيه، دنوت إلى هذا المشهد الرتيب، ألقيت السلام دون تفاعل منه، اقتربت من محل جلوسه، فإذا به (العربي)، بدا كشيخ خفتت الأيام نشاطه واندفاعه، وهو في الثلاثين فقط، ضممته إلى صدري بقوة كأمّ تلتقي بابنها بعد طول حنين، توقعت منه نفس الشوق ، لكنه لم يحرك ساكنا واكتفى ب: _على سلامتك اخويا _كيف حالك أ العربي؟ وكيف حال الأحباب؟ فين موسى ومحمد؟ رد علي بعدما نفث زفيرا متقطعا، ووضع حدا للسيجارة التي كانت بين يديه بدفنها في طفاية مليئة بأنصاف السجائر كانت أمامه، ليتفرغ لإجابتي، في الوقت الذي كنت أنا قد جلست على كرسي مجاور. “سأحكي لك قصتنا فاسمع” أعلن بلسان متثاقل. عندما رحلتَ إلى فرنسا لمتابعة دراستك وحصولك على المنحة، اختلفت التعاليق، بين من يقول “اليتيم الذي لا يكسب أرضا ولا أقارب درس ووصل” ، ومن يقول “قريبا سيحضر لكم شقراء إلى القرية”، وقليلون من أفرحهم خبر رحيلك داعين لك بالنجاح والتوفيق. القرية كما ترى انكمشت ملامحها، غزاها الأجانب العاملون في خلط الخرسانة ، والقادمون من القرى المجاورة وحتى من المدن، أما أبناؤها فهُجّروا قهرا للبحث عن غد أفضل..ومن بقوا هنا، تجدهم يداعبون سجائر رخيصة صباح مساء في هذا المقهى الكئيب. قاطعت العربي مستفسرا: _وهذه الأرض؟ من يسهر عليها؟ وموسى ومحمد؟ ابتسم العربي ابتسامة الزهرة الذابلة ثم واصل الحكي: حقول الأرض ألغاز يصعب فك طلاسمها، غضبت فتوقفت عن العطاء، أضحت أرضا يبابا كلما نظرت إليها انبثقت في رأسي علامات استفهام عملاقة عن المستقبل الغامض، أما موسى ومحمد فأغراهما حلم القارة العجوز، رحلا إلى ليبيا للعبور إلى إيطاليا من البحر الأبيض المتوسط، لكن قبل خوض مغامرة ركوب قوارب الموت والأمل، ونظرا للأوضاع المؤسفة التي يعيشها ذلك البلد، تعرضا للنشل والنصب والاحتجاز من طرف عصابات ملثمة سلبت منهما أربعة ملايين سنتيم مغربية بعد إعطاءهما وعودا بإيصالهم إلى إيطاليا، هذا ما حكاه محمد عند عودته من ليبيا خاوي الوفاض، والعهدة عليه. _وموسى؟ ! _لا أخبار عنه حتى اللحظة.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى