ط
مسابقة القصة القصيرة

حكاية الشاطر . مسابقة القصة القصيرة بقلم / ليندة كامل من الجزائر

الاسم واللقب ليندة كامل
البلد الجزائر
قصة قصيرة
حكاية الشاطر
لا أعلم لم أمي تحْدث أصواتًا كل ليلة !
كان عقلي الصغير لم يميز بعد، ما يحصل، لكن حدسي كان ينبئني بأمور كثيرة أدفنها( بين صدري الذي بات قبوا من الأسرار).أو أتجاهلها ربما لانشغالي بكثير من القضايا يجعلني أتغاضى عنها
فانهض مسرعا من فراشي وأحشر نفسي بين كتفي جدي وجدتي دون أن أغسل وجهي والنعاس يلتف حول أهدابي و رقرقة القهوة فوق جمر “الكانون” كان المنبه ليّ وأنا أنظر إلى جدتي وجدي وهما ينتظران نضوجها بشغف ويزرع ذاك الشعور فيّ إحساسا ما يزال عالقا بي حتى اللحظة، كأن ما حدث كان البارحة تماما!ربما ذا كرة الطفل الصغير هي أكبر استيعابا للأشياء مهما كان حجمها
نتزاحم في وسط البيت الطنيّ نلتف بذاك” الكانون” ليمدّنا ببعض الدفء، لم أكن أشعر بالبرد أبدا أمام تلك العيون التي تتعقب حركاتي بكل حب فأحس بشيء يدغدغني فاستسلم لسعادة تفوق حجم أكبر ما أعرف في هذا العالم ” جدي وجدتي”.
رغم ضعف قوتي إلا أنني أرغب بالجريّ دوّن توقف أحس إني حصان جموح لا يقهره أحدُ فلا أتوقف إلا عند يحدث ألمُ في قفص صدري أسأل جدتي حينها “ما هذا الذي يؤلمني هنا” مشيرا إلى قفص صدري فتجيبني مبتسمة ” إنها زجة”. ثم تكمل نصائحها لي “من فرط الجري، لا تجري بسرعة على مهلك ما تزال صغيرا، وضعيفا وجسمك لا يحتمل”.
حين تغادرني تلك الآلام أعود لأتنطط فوق ظهر جدتي وهي ترحي القمح برحاءٍ حجري يحدث صوتا قويا فأميل معها يمنة ويسرة لكنها لا تتركني أكثر من بضع دقائق لتصرخ في وجهي” ألا يكفي ما أنا فيه من عناء اذهب والعب في الفناء”.
فأهرول وأقفز كالأرنب بشعور غريب من انشراح وفضاء واسع يسكنني كأنني احتضن المدى بين ذراعيّ وحدي أتحسسه بداخلي لم تكن الأشياء من حولي تعنيني بقدر ما يعنيني احتوائها لي
فأجد ني كالجنين في أحشاء الحياة أمارسها دوّن أن تأخذ مني! بل كنت من يأخذ كل شيء منها
الهواء بيدي قطعة شكولاطة كبيرة تحوم في الفضاء، والأرض قطعة بسكويت أتنزه فيها وحنان جدي وجدتي عسل مصفى يعدل مزاجي فانصهر بين حضنيهما كل ليلة مع حكاية “الغول” و”ليلى بنت السلطان”.!
أنظر للحياة برأس متدلية نحو الأسفل فأراها فقط كما أحب فيدغدغني الضحك حين أتسلق الأشجار وأجري بالحقول وأصطاد العصافير والحمام وأشويها وأتلذذ بطعمها، قرصة الجوع لم تكن تمنعني من المرح فلا أكاد أحس به . تمزق هذا الفرح عندما نادت عمتي آمي تعالي: إنها تحتضر … !.
أسرعت خلفهن لأرى ما لم أفهمه يوما جدتي كانت تتألم ألاما شديدة صارت تنزعج من نطاتي فوق ظهرها ، تنهرني عند ضجيجي بقربها تطلب منهن أن يمسدن ذراعيها بدأت أرى ضحكات جدتي تتلاشي يوما بعد يوم تنطفئ مثل نار الكانون حتى بقت جمرا ملتهبا لا تقبل من أحد أن يتقدم نحوها أو يلمسها تقول “أن جسدها نار ووخز كالإبر”.
فتحت عنيّ في ذاك الصباح على صراخ عمتي وبكاء أبي وجديّ !
كانت جدتي مسجاة على الأرض مغطاة بلحاف أبيض، كنت أتساءل لمَ لمْ تنهض اليوم ؟ رغم شرحهم لي معنى أنها ماتت لم أكن أستوعب معني الموت ؟
يقول لي عمي والحزن يمزقه “إنه الموت إنه الشبح اللامرئي يمر دون أن نراه يتسلل لجسدها يسحب روحها دوّن أن تقاومه دوّن أن تفر من مكانها تستسلم له كما تستسلم الطريدة لقابضها ”
صراخ وبكاء يعلو في الفضاء الذي بدا أوسع مما كنت أره كنت أنظر إليه علني أجد روح جدتي كيف تخرج تلك الروح من ذاك الجسد دوّن أن نراها مخلفة ورائها جثة بلا حراك كما قال لي عمي .
صرخت عماتي بكين تعفرن بالتراب لكنهن لم يغيّرن شيئا لم يعد ذاك الموت ليرجع تلك الروح ؟ أ ي قلب ذاك الذي يحمله الموت كيف لم تستجب كل تلك التوسلات والدموع على أن يعيد إلينا روح جدتي منطق كان أكبر من أن أفهمه لكنني عجزت حقا من استوعابه .
تراشقت بعض كلامات إلى مسمعي كلمات جدتي حين تسمع بمصيبة الموت في إحدى البيوت فتردد” كي يدي ما يحن وكي يمد ما يمن “.
أحسست بفقدها أحسست أن زوايا البيت كلها تتألم لوداعها بدا البيت مظلما في وضح النهار و المكان شاحبا والكل لا يحتمل هرجي بدت الرؤوس مطأطأة سارحة باكية، لم أهضم هذا المنظر أنا من كان يرى كل شيء يضحك له أحسست فعلا بعد مرور الوقت أن جدتي لم تعد موجودة بيننا مرات أراها وهي ترحي القمح إنها هي فأهرول مسرعا نحوها صارخا… إنها جدتي لقد عادت لقد عادت… يباغتني شعور بالفرح العجيب كشارة كهربائية توخز جسدي فأطير في الفضاء وأسرع إليها لأرى أنها عمتي
فراغ كبير يملأ طفولتي بعد فراقها ، طلبوا مني ألا أذهب بعيدا كعادتي في الحقول فالأمر بات خطيرا ويجب الحذر، الحذر من كل شيئ ؟ كنت أتساءل عن هذا الحذر تذكرت أن من كان يزرع بي الأمل قد
ر اح كانوا يخشون عليّ من الهواء أمي وأبي وأنا أتسلق الأشجار بملل لمحت جنودا تتقدم نحو بيتنا تذكرت قول جدتي حينها” عندما ترى الجنود ابقي حيث أنت وارقبهم لا تتنفس حتى يغادروا مهما فعلوا ”
حبست أنفاسي فوق الشجرة، وأنا انظر إليهم وهم يرمون ذخيرة بيتنا من قمح وشعير وتمر وكسكس
وأمي تبكي تترجاهم تركها زجوا أبي في حافلة ،ثم رحلوا و لحقهم ذاك الذي كانت يداه ترفع سحاب السروال! منذ ذاك وصراخ أمي يتزايد يوما بعد يوم!.
حدسي الطفو لي أنبأني بشيء لم أعرفه رغم اشمئزازي منه ، قلّت قفزاتي ونطاتي بعدها وشحب كل شيء رأيته يومها لذا كانت تقول أمي “ليتنا نموت بالرصاص ولا نموت بالذّل والعار ؟”.
عاد أبي مشوه الوجه، ومعطوب اليدين، ومنزوّع منه أشياء أخرى ؟
زاد بكاء أمي أكثر كل ليلة .. !
رأيت الفراغ نقطة سوداء في عيني ، ووجدت الشكولاطة سمجة المذاق في فمي والأشياء التي كنت أمسكها طارت من يدي كالفراشات ،كنت أقتفى أثر جدتي تزورني كل ليلة، وتقص لي حكاية الشاطر كنت أنبهر به، وبشجاعته لو كان مكاني عندما جاء الجنود ومزقوا عذرية بيتنا لقام بسحقهم جميعا كان يقفز بين رؤوس الجبال، والجن كل الجن معه فأوامره مطاعة لا يحمل في قلبه الشفقة كان لا يؤدي أحدا لكن الذي يظلمه لا يسلم من العقاب كان رحيما بالضعفاء شديدا مع الأشداء حاقدا على البغضاء كنت منبهرا به وبقوته وحكمته ورصانته انبهرت أكثر حين تسلحت بكل تلك الأسلحة ورحت أفجر ذاك المبنى للجنود الذين اقتحموا بيتنا..
كتبت الجرائد ، وتحدثت الصحافة يومها عن ضحايا هجوم إرهابي ! الذي حاول اغتصاب مبني بريء
لم يكتبوا قبلا عن تلك البيوت التي تنتهك حرمتها طيلة عقود من الزمن عن بيتنا وعما فعله الجنود عن كل الدمار الذي لحق بينا، وحدها جدتي من كانت معي تساند مرات أراها تقفز و تفجر ذاك المكان وتلقي سراح السجناء ، والأسرى، وما تزال تحكي لي حكاية الشاطر .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى