الاسم: عبير خالد يحيي
البلد: سوريا
الإيميل: [email protected]
قصة قصيرة
رحلة
-” خائفة ؟”
سألتها باذلةً جهدًا كبيرًا لأخفي رجفان لساني كيلا يفضح رعبًا ملأ نفسي ..
تلفّتتْ إليّ محاولةً رسم ابتسامة بدا واضحًا أنّها قناعٌ تخفي به أعراض الهلع، أنا أصلًا أخاف من الأقنعة مهما كانت منمّقة !
-” لا أبدًا “.
أجابت باقتضاب ..
أمام نظرتي غير المصدِّقة استأنفتْ :” نعم خائفة قليلًا ، مثلُك.. لكن سنخوض التجربة، إن لم نجرّب الخوض فيما نخاف منه سنبقى خائفين من مجهول إلى الأبد !”.
صدمتني بقولها! أعرفها عميقة رغم صغر سنّها، لكن تدهشني دائمًا ألفاظها .
وافقتها بهزّة من رأسي، أخذنا أماكننا، كنت أجلس متطرّفة على المقعد الطويل، الذي توسّط المركب، وصغيرتي إلى يساري، وإلى جانبها سيدة أربعينية، تلتها فتاة شابّة, الواضح أنها ابنتها .
امتلأ المركب بالناس، خليط بين نساء ورجال وأطفال.. وبدأت محركاته بالعمل …ومعها باشر قلبي بالدعاء، لا مجال لسماع ما تتحرّك به الشفاه، تجنّبت تلك التمتمات حتى لا تشعر الصغيرة بالخطر القادم، لكنّي سمعت بسبساتها المتلاحقة (بسم الله بسم الله بسم الله)، وعندما باغتتها نظرتي توقّفتْ، وأعادتْ وضع قناعها ..
مع أول حركة صاعدة تشبّثتْ بيد السيدة، التي وضعت يدها الأخرى حاضنة إياها بتعاطف واضح، ” في الأزمات كل امرأة هي أمّ لكلّ صغير، حتى ولو لم تنجبه، لماذا لم تمسك ابنتي بيدي أنا ؟ ألست مصدر أمان لها في هكذا ظرف ؟ ”
حركة هبوط مباغتة جعلتني أصرخ: ” هذا جنووووون… ما أقدمنا عليه ضرب من الجنون …”
اصرخي … ألم تكن نيّتك المبيّتة أن تصرخي … اصرخي لن يمنعك أحد من الصراخ ، تذكّري صرختك الأولى .. واخرجي عن صمودك الهش …
بالنهاية أنت أسيرةُ ألمٍ لا تجرؤين حتى على الصراخ منه، لماذا ؟ هل الصراخ إثم ؟ “.
سقطةٌ من علٍ، رأيتُ فيها كلّ من من غاب في بحر لجيّ يغشاه موج من فوقه موج، لم يعرهم الموت رحمة، بل مضى حاصدًا أرواحهم بقسوة …
والقبر بحر …
تواتر المركب بين صعود وهبوط متأرجحًا بنشوة على أنغام صيحات الركاب، أظنّ أن حنجرتي أطلقتْ أقوى أصواتها مودّعة عهدها بالحياة، أنا التي لم تصرخ حتى أثناء الولادة، باعتقاد سخيف بأن ذلك عيب ! أغمضت عينيّ كي أركّز كلّ قواي بمنطقة واحدة -حبالي الصوتية- :
“الله !
إن كتب الله لي الحياة ثانية لن أحرم نفسي من نعمة الصراخ، أحسستُ بأنّ روحي خرجت من جسدي وحلّقت بعيييييدًا مع الصدى … هل كان هناك صدى ؟ أشك في ذلك فلم أكن أنا الوحيدة التي تصرخ … الكل يصرخ بلا استثناء، فالفراغ ممتلئ، لكن صرختي كانت الأقوى، بدأت من أخمص قدمي وانتهت في فضاء لا متناهي …
“وصلنا هيا انزلوا الحمد لله على السلامة “.
سمعتها من رجل، وأيقنت أنّ في العمر بقية .. انتزعت ابنتي من السيدة التي ضمّتها طيلة الرحلة .. عندما سألتها بصوتي المبحوح : ” لماذا لم تتشبّثي بي؟”
أجابت : ” خشيت أن تشعري بخوفي، فتحجمي عن المحاولة !”.
أشكّ أحيانًا أنّ هذه الفتاة هي من ولدتْني وليست أنا من ولدتُها !
علينا أن نتابع … القطار هو وسيلتنا الثانية … انطلقَ بسرعة البرق، لم نعتدْ في بلدنا على ركوب القطار, فهو ليس من وسائل المواصلات المنتشرة، الغربة جعلتنا نتعرّف على مجاهل كثيرة، سرعته الفائقة جعتلني وابنتي تتشابك، وبدأ مسلسل آخر من الانفعالات مصحوبًا أيضًا بمؤثرات صوتية نصدرها معًا.
ومع اصطكاك عجلات القطار بجسر حديدي ضيّق ملتوٍ فوق واد عميق أسود حينًا وغورٍ أحمر حينًا آخر, شعرتُ أنّنا فوق الصراط ..
وأنّنا في يوم الحساب، وعلى الأعراف، يتأرجح مصيرنا بين جنة ونار، ننتظر أن تدركنا رحمة الله …
تختفي الشمس فجأة، لنجد أنفسنا في سراديب وأنفاق، يا إلهي ما أشدّ عتمتها !
تباطأت سرعة القطار تدريجيًّا حتى توقف نهائيًّا، النفق مغلق !
هل يُعقل هذا ؟
على أضواء القطار المبهرة لاقى بصري شبحَ إنسان التصق بفوهة النفق، غطّى عينيه من الضوء الذي غشيَه، كيف لإنسان أن يتواجد في هكذا مكان ؟ !
دقّقت النظر.. رأيتُها !
شابةً اقتربت وصعدت القطار، تقدّمت وجلست قبالتي ..
نظرتُ إليها بدهشة، ونظرتْ إليّ بعتب ! فتاة عشرينية، تخبرُك ثيابُها المهترئة أنّها منسيّة منذ عقدين ماضيين، من وراء مساحيق ترابية باهتة رأيت معالم وجهها، كأنّي قابلتها قبلاً لكن أين وكيف ؟ لا أذكر …
بادرتُها : ” منذ متى أنتِ هنا وماذا تفعلين ؟ من أنتِ ؟”.
لم تردْ على سؤالي, بل أشارت بإصبعها إليّ وكأنها تقول لي باتهام صريح : “أنتِ”
نكزتني ابنتي نكزات متكررة أوجعتني .. :
-” هيا أمي .. Game is over, خبرنا الخوف وواجهناه، في المرة القادمة سنجرّب ألعابًا أخرى …كم حرمتُ نفسي من متعة اللعب بمدينة الملاهي”