ط
الشعر والأدب

سارة :قصة قصيرة :بقلم / ليلى بروك

ليلى بروك

سلمها المدير لائحة المدعويين لحفل افتتاح الفرع الجديد وبدأت تتصفحها فإذا باسمه يطل عليها مباغثا إياها فاهتز بداخلها شيء ظننته لطول الغياب قد مات .
سامي سعيد هذا الإسم الذي جمع الأضداد ، وكان فيه الداء والدواء ستراه في الإفتتاح ، شلت المفاجئة تفكيرها وتسمرت عيناها عند حروفه وإذا بأصابعها تتحسسها في محاولة يائسة لأن تلمس شيئا يعنيه ولو كان مجرد حبر على ورق.
سارة التي أخضعت كل شيء في حياتها للشك ظل هو يقينها الوحيد الذي جاءت لهذه الدنيا لتحبه وليمضي تاركا إياها تواجه أعاصير بعده عزلاء بقلب كسير و جرح عميق.
كثيرا ما فكرت بمظلة النسيان لتحتمي من هطول غيابه القاسي لكن ما عساها تجدي مظلة امام إعصار إنسانة طالما عشقت عواصف آجتياح حبيبها , طالما احتقرت التخفي وراء اللامبالاة ,لذا عاشت به دون أن تكبت حبها ودون أن تكرهه أيضا ….. هي فقط في هدنة مع حبه ومع وجعه واليوم انتهت هذه الهدنة.
بدا لها ذاك الصباح الذي صادفت فيه اسمه جميلا لا كصباحاتها المليئة والممتلئة عن قصد وتعمد لكي لا تموت قهرا أو تموت شوقا.
انتشلتها رنة هاتفها من غمرة ذكرياتها التي استلذت الغرق فيها حتى الأعماق وإذا بزوجها :
-سارة أنا أنتظرك في السيارة .. هلا نزلت..
-حاضر
أعادها الهاتف الجاف للواقع ، أخذت حقيبتها وغاردت المكتب.
كان ينتظرها ركبت بجانبه وانطلق بعد أن تبادلا تحية مقتضبة لفرط العادة صارت بلا معنى.
لم تبال بجفائه فقط اكتفت بإغماض عينيها وتخيل صورة سامي مطلا عليها في الحفل ، فكرت ماذا يا ترى حل به خلال سنوات الغياب ؟ أيكون تزوج؟
للحظة أرعبتها الفكرة واشتعلت بداخلها الغيرة التي نسيتها كإحساس أنثوي منذ تزوجت بفريد.
دخلا البيت مجتمعين مفترقين ، تجمعهما رابطة الزواج والتعايش وتفرق بينهما المشاعر والألفة ، جلست على الأريكة وسرحت بخيالها في سامي وكل الهزات التي تركها فيها احتمال رؤيته ، بينما دخل فريد لغرفة النوم للحظات غير ثيابه وهم بالخروج.
استوقفته بسؤالها :
-ستخرج؟
-أجل لدي موعد هام..
مستغربة :
-للتو دخلت
بعصبية :
-قلت لك لدي موعد ، جئت لأوصلك ولأغير ثيابي
-ماكان من داع لتتعب نفسك بإيصالي..
أخذ المفاتيح من على الطاولة وغادرها تاركا لها تلك الغصة التي تنضاف إلى غصات سابقات لم يتوان في إهدائها إياها منذ ارتبطا.
في دخان صراعهما اختفى طيف سامي وانطرحت على الأرض تبكي بحرقة.
لم يكن لديه موعد ولا كان مضطرا للخروج ، فريد الذي أيقن يوما أن الموت وفراقها شيء واحد ، هاهو يراها تضيع منه دون أن يستطيع أن ينقذ ما بقي بينهما واكتفى باللامبالاة والهروب من المنزل.
أوقف السيارة أمام بيت صديقه ، ترجل وفي أعماقه سؤال يلح عليه منذ تزوجها ، مالذي يحول بينه وبين أن يحظى بقلب حبيبته ؟ ولما لم يستطع أن يذيب جليد مشاعرها نحوه ؟ هي ذات يوم لم تحبه ولكنها أحبت عشقه لها وهذا لم يكن كافيا ليقايض به ذاك الوله الجارف الذي يحمله لها؟
مضت الساعات تلو الساعات لا هو اتصل ولا هي سألت ، هي متعبة ولا تدري من ماذا ولا ترى في غيابه عن البيت الا إهانة مستمرة لأنوثتها.
بعد منتصف الليل بساعة سمعت صوت مفتاحه ، كانت مستلقية على الأريكة ، وكأنه فوجيء بها :
-ألازلت مستيقظة؟
-ماذا ترى؟
-سارة ، ارجوك .. ليس لدي أي استعداد لمناقشة اي شيء .. أريد فقط أن أنام
وفقت بعصبية :
-تنام؟ طالما احترفت التأجيل .. متى سيحين وقت النقاش؟
اتجه لغرفة النوم متجاهلا إياها ، لحقت به وقد أعياها اليأس والبرود والحنين لدفء سامي في صقيع فريد ، وأخيرا نطقت بما أجلته لسنوات:
-لم يعد لنا من أمل لأن نستمر معا ، لا جدوى .. ما عدت قاردة على التحمل.
نظر إليها بهدوء:
-والحل؟
-طلقني ، خير من أن تتركني معلقة إلى جدار لامبالاتك
وكأنها عصفت بكل ما ضحى به لكي لا يخسرها ، نطق بوجع :
-أنا ؟ أنساك ؟ أنت كل ما يشغل بالي؟
وكأنها لا تصدقه:
-واضح جدا
-أتدرين ، هناك ألف سؤال يجول بخاطري منذ ارتبطنا ، تنازلت عن تلك الأسئلة جميعا وما عدت راغبا في الحصول على إجابتها ماعدا سؤال واحد
-وما يمنعك أن تسأله؟
-منذ متى تزوجنا ؟ غريب سؤالي أليس كذلك؟ منذ خمس سنوات ، هل يمكن أن تجيبنني لما ترفضين الإنجاب ، هل ستنتظرين خمس سنوات أخرى أم أنك لا تريدين طفلا أكون أنا والده؟
صمتت أمام سؤاله مستغربة أن يعود لموضوع الإنجاب بعد أن ظننته نسيه منذ ثلاث سنوات .. فكرت مع نفسها هي أيضا لا تعرف السبب ولا تدري لما ترفض كل شيء يتعلق بفريد ، هي أصلا تزوجت به في فترة وجع وقبلت به لتستعيد كبريائها أمام نفسها وأمام الجميع بعدما تركها سامي وفسخ الخطبة بلا داع وجعلها أنثى مجروحة مرتين .. مرة لأنه طعنها في أنوثتها وأخرى لأنها عشقته بلا حدود ووثقت به بلا حدود ، تلك الثقة التي عز عليها أن تمنحها لأحد بعده.
انتشلها فريد من متاهة ذكرياتها بقوله :
-أعرف أنني لم أفلح في أن أحظى بقلبك لكن كوني على يقين أنني أحببتك بحسناتك وخطاياك لذا لن أظلمك أكثر من هذا ، ماعدت قادرا على الصبر ولا يحق لي أن أوثقك إلى جانبي سنوات أخرى..
صمت ، نظر إليها ، أطرق عينيه واخيرا نطق :
-سارة أنت طالق.
تلقت كلماته بوجع وخوف ، لم تنبس ببنة شفة ولا هو حاول استفزاز انهيارها الذي بدا جليا على قسمات وجهها .
غادر وبدت مساحات الظلام تتسع بعده وحيرة تتلقفها بلا رحمة وكأنها نزيلة صدمة لقسوتها لم تعد تدري هل تسعد أم تحزن.
ما أسهل إفساد أي شيء؟
وما أصعب رتق الجروح؟
لامبالاته وهروبه كان مخافة أن يصلا للطلاق وهاهي تدرك كم تحمل منها وعانى.
مضيا في إجراءات الطلاق ، ثلاث جلسات لزوجين اتفقا مسبقا على كل شيء لم يجد القاضي بدا من الرضوخ لإصرارهما على الطلاق وحكم لهما بالتفريق.
وها هي ذي حرة.
لم يبق للإفتتاح الا بضعة ايام ، شيء من الفرح اللذيذ يتسرب إلى قلبها رغم مرارة انفصالها ظل احتمال رؤية سامي مبعث أمل في روحها الثكلى.
أنيقة رقيقة كعادتها هي اليوم أجمل من عادتها ، أكثر إغراءا وأكثر حضورا ، تتجول في قاعة الإحتفال تسلم على هذا وترحب بذاك وبين الفينة والأخرى تلقي بنظرها إلى المدخل لعلها تلمحه كالبدر منيرا مطلا عليها.
ناداها المدير ليعرفها على ضيفه المهم..
-تعالي أعرفك على شريكنا الجديد ، الدكتور سامي سعيد
وقفت مذهولة ثم تمتمت بكلمات شلتها المفاجئة :
-أهلا وسهلا بك دكتور سامي يسرنا أن نتعاون ، تشرفت بالتعرف عليك
لم يكن هو ولا كانت هي هي .. تشابه اسماء لا تشابه قلوب ، حتى قلبها ما عاد له ولا لها .. متأخرة تنتبه أنها ضيعت قلبها حيث رأت فريد للمرة الأخيرة.
ها هي تتحسسه فلا تجده ولا تجد سارة ولا تجد من غبار السنين الا الفراغ.
هناك فراغات لا تملأها أحضان العالم.

بقلم ليلى بروك

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى