سخرية القدر: هي و هو .
أمينة بريوق..الجزائر
هي ، كانت بحيرة راكدة لم يسبق أن قذفها أحد بحجر ليعكّر صفو سكونها، هو ، كان بحرا متلاطم الأمواج، لا تعرف سفينته شاطئا ترسو عليه، يوما ما قررت البحيرة أن تغيّر مجراها بمشيئة من القدر لتصبّ صدفة في ذلك البحر العميق، فالتقيا فجأة على حين غفلة من الزمن، شيء ما يشبه الشرارة كانت تسري بينهما، لحتى الزمن من دهشته صار رفيقهما الثالث الذي يحضر إذا اجتمعا فيوقف ساعاته كما يوقف دقائقه وثوانيه ويصغي خفية إلى همساتهما التي كانت تشبه إلى حدّ بعيد مناجاة ناسك صوفي متعبّد لم يعد يعط أهمية لما يدور حوله.
إذن قذفت البحيرة أخيرا بحجر !! هي، شيء ما كان ساكنا تحرّك فيها لم تدر ما هو، شيء أضاف مرحا آخر إلى مرحها القديم، أضاف إحساسا جديدا إلى كتلة المشاعر التي احتواها قلبها منذ الأمد ، هو، لم يقتنع بعد أنه أحبها كان ينظر إليها بقداسة من ينظر إلى أمه، كانت بالنسبة له شيئا لا يشبه شيئا في هذا الكون بأسره، كانت المعادلة الأصعب في حياته وتلك القاعدة التي لا يمكن تفسيرها ولا البرهنة عليها لأنه فقير لا يملك أدلة كما أنه لم يعتد على البراهين ، كلّ ما كان يملكه قلب موصد خاو على عروشه جاءت هي على حين غفلة منه فتحت الباب ودخلت وبنت لنفسها عرشا ونصّبت نفسها ملكة لأحاسيسه ومشاعره، هي ، لم تدر أنها فعلت به كلّ هذا كما لم يدر هو مكنونات قلبها نحوه، هي، أحبّت فيه مستقبلا كانت تدري عن سابق إصرار أنها لن تكون جزء منه وستكتفي بالنظر من بعيد لتعيش على هامش حياته في تلك الزاوية المنفردة الباردة، بينما كانت هي في الحقيقة بالنسبة له محور الحياة ، بهجتها ورونقها، وكان يظن هو أنه يتربع عرش الهوامش في حياتها، ظنّ الاثنان نفس الشيء ونسيا في غمرة ظنونهما أن بعض الظنّ إثم.
كان حبهما بريئا إذن ، في زمن صارت الجراءة عنوانا له وقصيدة، زمن من أكبر جرائمه أنه شوّه الحب وتلك المشاعر التي زرعها الله فينا عن سجية وفطرة لتنبت تحت رعايته عز وجلّ وعلى مرأى من كلّ البشر، لكن البعض آثر أن يسقوها ذنوبا خفية عن أعين كلّ البشر لتزهر بدل الورود أشواكا لادغة بسمّ المعاصي.
إذن كان حبا عفيفا طاهرا مستترا عن أعين المتطفلين على اعتبار أننا نخفي الأجمل من مشاعرنا بانتظار إشارة من القدر !! غباء فعلا أن نسبح عكس التيار وكانت كلمة واحدة كفيلة لتذيب الجليد فالحبّ ليس عيبا كما أنه ليس بجريمة نحاسب عليها ، فلماذا نخفي مشاعرنا وهي أجمل ما فينا ؟؟ لماذا نبديها باردة كالثلج ونار الشوق بداخلنا تكوينا؟؟ لماذا نفرح عندما نلقى من نحب ثم يأتي فرحنا ليلا فيبكينا؟؟ طالما سأل نفسه هذا السؤال كما طالما سألت هي ولم يجدا لحدّ الآن جوابا مقنعا.
فجأة استفاق الزمن الذي كان شاردا لهمساتهما وأيقظ معه دقائقه وثوانيه واستدعى القضاء والقدر، فالواقع يقتضي أن لا تعرف قصة بريئة النور أبدا ، لذا يجب أن تتدخل كل البشرية لتغير مجرى البحيرة كما يجب أن تجنّد كلّ المخلوقات لينسى البحر أنه عرف في يوم نبع ماء صاف رقراق، ولا يهم ما السبب فبين كبرياء انثى رغم الشوق وعناد رجل رغم الألم يوجد شيء إسمه ” المكتوب” فلا ضير إذن أن يفترقا مادام إلقاء اللوم على هذا المكتوب موضة رائجة في هكذا زمن !!
وهكذا قرّر الزمن قراره، ووضع القدر تأشيرته عليه بوجود شاهدين برتبة ضحيتين: قلب أنثى جريح وفؤاد رجل أحبّ بصدق وباعدت بينهما الظروف.
أتعلمون ؟؟ كانت هذه قصة كتبتها هي، قديمة قدم الحبّ العفيف الذي انقرض عن هذا الزمن ورحل، قصة لم يبق منها سوى نسمات عابرة استرجعت هي فصولها اليوم بعد أن أحسّ القدر أنه ظلمهما بقراره، وتأسّف الزمن أنه كان طرفا حاك مؤامرة قطيعتهما، فرحت هي كما لم تفرح قطّ في حياتها، وطار هو من السعادة لأنه استعاد مشاعرا قديمة، رغم السنين لم تزل صامدة، ورغم البعد لم تزل صادقة، من قال ان القدر لا يستدرك خطاياه؟؟؟ من قال أن الزمن قاس بأحكامه وقضاياه؟؟ فها هما يلتقيان ويؤسسان معا لأحلام على مرأى من كلّ البشر ، وهاهو ذا يتوّج ملكة إحساسه بتاج من إسمه دليل محبة ووفاء
أصدّقتم ؟؟؟ ، لا تصدقوا أن النهاية بهذا الجمال وهذا الرونق الأخّاذ ، وهاهي فصول الرواية الأخيرة التي نسجتها الحياة بمهارة حرفي بارع : فهو رجل شرقي ،عناده رمي به إلى امرأة أخرى أحبها كأمّ لأبنائه بيد أنها لم تطرق باب قلبه يوما، هي عاشت بكبرياء أنثى ممزوج بنسيم من ذكراه فترة من الزمن، ثم انصاعت لتقاليد مجتمع يرى من الزواج الضامن الوحيد لمستقبل الفتاة، فترضى هي بالزواج من آخر بيد أن القلب يأبى الارتباط ، وعلى الرغم من هذا طالما حاولت أن تجعل من حياة زوجها معها جنة، بينما تمنت في زمن غابر أن تؤسس جنتها مع أول طارق لقلبها ليبنيا معا جنة فوق الأرض.
لا القصة لم تنتهي عند هذا الحد فلا بدّ من سخرية القدر في النهاية، نعم لا بدّ من مرارة أخرى فنفس القدر الذي جمع قلبيهما في زمن مضى ثمّ عزف عن قراره ليفرّقهما عاد ليجمعها مرة أخرى ليمزج الماضي بالحاضر في حديقة للأطفال ، هو ، كان برفقة زوجته وولديه، هي، كانت برفقة زوجها وابنتها، لتلتقي العيون مرة أخرى ويبتلعا معا غصّة الألم ممزوجة بجمر الندم، هذا ما أحسته هي وما أحسه هو كذلك عندما جرت ابنتها لتلعب مع ولديه، حتى أطفالهما سخرا منهما ذلك اليوم عندما تشاجرت ابنتها مع أحد ولديه لأنه رفض أن يلاعبها بالكرة ، لم يدر الصغار أنّ القدر هو من تلاعب بآبائهم وهاهو يسخر منهما من جديد عندما يجمع أطفالا كان من المفروض أنهم ترعرعوا في بيت واحد لولا ذاك ” المكتوب” تدخّلت هي وهو ليوقفا الشجار لتلتقي العيون وبها لمعة من ندم ، فيأخذ هو ابنه وهو يقول في سرّه: لم ضربتها فلو كان الزمن زمنا لكانت الآن أختك، أما هي فاحتضنت ابنتها وهي تتمتم: لا تبكي يا ابنتي فلو كان الزمن زمنا لكنت الآن ثالثتهما.
وافترق الاثنان كلّ منهما في الطريق المعاكس ووقف الزمن متسمرا في مكانه وسط الطريق متأملا كيف يذهب كلّ منهما صوب نصفه الآخر الذي لم يكمّله يوما، لتنتهي فصول الرواية وعندها فقط يلتقي الزمن والقدر ليتصافحا فقد نفّذت المهمة بنجاح، وحده الحبّ الصادق يبكي في النهاية ليسائل القدر لماذا يهبنا لمن لا نهوى ويهب من نهوى لسوانا؟ فلا يجد القدر إلا السخرية معللا أن زمن المشاعر الصادقة قد ولّى وكلّ ذنبهما أنهما أحبّا بعضهما حبا بريئا صادقا في الزمن الخطأ.. بالفعل يا لسخرية القدر !!!…