ط
مسابقة القصة القصيرة

سقوط الحكماء.مسابقة القصة القصيرة بقلم / نصر سليمان محمد من مصر

مسابقة القصة القصيرة
نصر سليمان محمدمحمد
الاسماعيلية – مصر
01221569270

“سقوط الحكماء ”

جلست في شرفة المنزل ذات مساء قبل غروب شمس يوم شديد الحرارة هرباً من الجو الخانق والرطوبة العالية داخل الشقة .. فنحن في منتصف شهر أغسطس وشمس النهار كأنها فوق الرؤوس تُبخر ما تبقى من سكينة وهدوء وتهيج الأعصاب وتدمر الأفكار ..حتى إذا ما انزوت وغربت تركت توابعها وذيولها من حرارة شديدة ورطوبة مرتفعة تجعل الإنسان يضيق بالحياة وبكل ما حوله .
وقد اعتدنا نحن المصريون مؤخرا الهروب من هذا الطقس و الجلوس في الحجرات المكيفة .. وغالبا لايوجد سوى تكييف واحد إن وجد في منزل الأسر المتوسطة ..يهرع إليه الجميع هربا من هذا الحر القائظ …
أردت أن أستريح بعض الوقت من هواء التكييف البارد الذي لم أعتاده ويسبب لي آلاما بالرأس بين الحين والآخر .. فخرجت إلى الشرفة قبل الغروب علني التقط بعض الهواء الرطب و أجدد هواء صدري ..
جلست وفي يدي كوب من الشاي الساخن أرقب عددا من طيور الغربان وهي تحلق في سماء المنطقة وتصيح بصوتها الحاد الغير محبب إلى النفس وكأنها في عراك مستمر ..فقد انتشرت تلك الطيور في مدن مصر في المدة القصيرة الماضية وأصبح من المعتاد رؤية العشرات بل المئات منها في أماكن كثيرة من المدن .
أخذت أتابع احد الغربان الواقف على سلك الكهرباء الواصل بين عمودين ..وغراب آخر يحاول مشاكسته وزحزحته عن مكانه .. ..وشطح بي الخيال لتذكر قصة ولدي سيدنا أدم “قابيل وهابيل” وما دار بينهم والنهاية المؤلمة التي انتهت بها قصتهما من قتل قابيل أخيه هابيل ..وكيف عَلم هذا الغراب قابيل كيفية دفن أخيه بعد أن قتله وتركه في العراء لا يعرف ماذا يفعل بجثته.. وكان الغراب رسولا من عند الله ليعلمه كيف يواري سوءة أخيه ..وجاء ذكره في القرآن بكل تبجيل ..
وبينما أنا مستغرق في تذكر هذه القصة وأبعادها ..شاهدت فجأة أعدادا كبيرة من الغربان يجاوز عددها المئات وقد حجبت ماتبقي من ضوء الشمس قبل أن تغيب وتسحب نورها معها .. فاكتست السماء باللون الأسود المميز لهذه الطيور وغابت الشمس قبل موعدها ليحل ظلام الغربان على المكان .. ويردد المكان صدى صياحهم المزعج.. ويضيق الصدر بها وينقبض من نواحها .. فقد تربينا واعتدنا على التشاؤم من صوت الغراب .. ونستعيذ بالله من تواجده وكأنه شيطان رجيم ..
قضيت عدة دقائق أرقب أسراب الغربان محاولا معرفة ما وراءها .. وأدركت سريعا وجود” فرخ غراب “صغير لايقوى على الطيران يسير على الأرض وسط الطريق .. ربما سقط وهو يتعلم الطيران أو وقع من فوق شجرة .. وجموع الغربان حوله تذهب وتجيء وتعلو وتهبط وكأنها تحيطه بمظلة سوداء صنعت بأجساد هذه الطيور تحميه من أي تعدي وتبعث رسالة قوية لمن يحاول أن يقترب منه أو يؤذيه ..
استوقفني هذا المشهد وانتبهت له بكل حواسي أرقب نهايته الغريبة … وفجأة وبدون سابق إنذار هبط عدد لابأس به من هذه الطيور على سلك الكهرباء الواصل إلى منزلنا .. وفي لمح البصر سقط السلك وتشابك مع باقي الأسلاك .. ودوى صوت انفجار شديد.. ولمعت أضواء باهرة تخطف الإبصار وتصاعد دخان اسود كثيف أعقبه انقطاع الكهرباء عن المنطقة بأسرها بعد أن حدث تماس بين الأسلاك وتساقط عدد كبير منها ..
سقط قلبي مع سقوط السلك وانقطاع الكهرباء .. فالحرارة شديدة ..ولن أحتمل هذا الحر دون استخدام مراوح أو هواء التكييف .. هذا بخلاف فساد الأطعمة بالثلاجة .. والأهم من ذلك .. ماذا عن الأخبار التي أعددتها واستعد لإرسالها للصحيفة التي أعمل بها عن طريق شبكة الانترنت .. وهى أخبار لا تحتمل التأخير ولابد من إرسالها بعد دقائق قليلة … يا للهول ….ماذا فعلت أيها الغراب ..
كنا قد اعتدنا منذ بداية فصل الصيف منذ عدة سنوات على انقطاع التيار الكهربائي ..فحكوماتنا الرشيدة عودتنا على ذلك ترشيدا للاستهلال ولعدم وجود وقود يكفي لتشغيل محطات الكهرباء .. وكنا نعيش أوقاتا صعبة نقاسي ويلات الحرارة الشديدة والإظلام الذي يعم الأحياء …. ولكن هناك فرق فإظلام الحكومة كان يستمر ساعة أو اثنتين على الأكثر .. وكنا نتحمله على مضض .. ونعد له العدة ونحسب له الحسابات..ولكننا هذه المرة في مصيبة جلل .. فالأسلاك قد تساقطت .. وتعللت شركة إصلاح الأعطال بعدم وجود فريق فني أو سيارة رافعة لتوصيل هذه الأسلاك .. وربما نظل في هذا الظلام والجو الخانق لعدة ساعات ربما تطول إلى يوم كامل أو أكثر …
يالها من مصيبة جلل في هذا التوقيت وهذا الطقس القاتل ..
اجتاحني الغضب وراودتني نفسي أن أقتل هذا الغراب الصغير الذي يقف غير مبالي بما فعله بنا أهله وعشيرته وكأنه يتحدانا أن نفعل شيء ..
كظمت الغيظ وحاولت أن أحتفظ لنفسي بهدوئها.. فهذا الغراب وإن كنت في غاية الحنق عليه وقد ازددت كراهية له بعد فعلته الشنعاء .. غير إنه في النهاية “معلم البشرية الأول” ولا يجب إلا أن أكن له كل احترام ..
ارتديت ملابسي على ضوء شمعة صغيرة .. أغلقت الشقة بالمفتاح وركبت السيارة وتوجهت إلى منزل شقيقي الذي يبعد عن منزلي عدة كيلو مترات … سهرت الليلة عنده وأنجزت الأعمال المكلف بها …استمتعت بهواء التكييف …وهدأت نفسي بعض الشيء ..
بينما استعد لإيقاف السيارة بعد عودتي لمنزلي صباح اليوم التالي .. لمحت أحد الغربان ينظر لي نظرة تحدي وعينيه كلها مكر ودهاء ..توجهت إليه في خشوع وعاتبته عتابا لينا عله يقبله ولايستفزه …أيها الغراب” الحفيد” لماذا تركت رسالة التنوير والتعليم التي حملها أجدادك ..والآن تعيس في الأرض فسادا وتنشر الظلام في ربوعها ..هل غَيرتك الأيام أيها المُعلم كما غيرت الكثير من النفوس ؟؟ هل انقلب بك الحال وتخليت عن الحكمة وضرب رأسك الهراء والهوى والأفكار ؟؟.. وقبل أن يجيب أدرت السيارة وانطلقت سريعا من أمامه .

“النهاية “

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى