ط
مسابقة القصة القصيرة

شبشب مقلوب .مسابقة القصة القصيرة بقلم / دعاء عبد السلام البطراوي. .مصر

دعاء عبد الشلام البطراوي.
مصر / محافظة دمياط
[email protected]
=قصة قصيرة

شبشب مقلوب
**************
” البقاء لله .. شِد حيلك ”
قالها الطبيب بلهجة آلية و انصرف ! تركني مأخوذا من هول الصدمة ، أطوي جراحي بين ضلوعي ، تستأذنني دمعاتي في الهطول ، و أنا أكبح زمامها بكل ما أوتيت من قوة .
لم تكن أشد أزمات جدتي الصحية ، فاعتقدت أنها ستمر بسلام كسابقاتها ، وحدها كانت تعلم أنها الأخيرة لذا قبضت على يدي بقوة و قالت كأنها تودعني :
_ ابقى اترحم عليا يا ولد …
طبطبتُ على كفها المرتجف ، قلتُ لها مطمئنا :
_ هتعدي زي اللي قبلها …
تمتمت حينها في قلق :
_ بس أنا عيني الشمال بترف ..
لم أجادلها تلك المرة ، أشفقتُ عليها من محاضرة طويلة تسمعها دائما مني كلما اصطدمتُ بأفكارها القديمة ، و اكتفيتُ بقبلة سريعة على جبينها ، ثم الدعاء لها بطول العمر .
” عاوزين توقيعك عشان تستلم الجثة ”
الجثة !! أوجعتني الكلمة ، تجرعت مرارتي بحلقي ، و بذلت جهودا جبارة كي أتمالك نفسي ، و بدأتُ أوقع باسمي هنا و هناك في أوراقٍ لا أعرف ماذا بها ! فلم يكن الذهن صافيا كي أتمعن و أدقق ، و لو كانت أوراقٌ لبيع ممتلكاتي الزهيدة لوضعت توقيعي عليها دون أن أدري !
توقف القلم بين اصابعي حين تنبهت لتاريخ اليوم ، اكتشفت أننا في اليوم الثالث عشر من الشهر ، ابتسامة بائسة علت شفتي ، ما كانت جدتي لتسمح أبدا أن يُكتب ذلك الرقم في أوراقٍ تخصها !
سامحيني جدتي !
الجنازة تسير و أنا في مقدمتِها أسير كتمثالٍ متحرك و كأن الزمن قد توقف بي ! لم أكن مستوعبا أنني سأتركها في حفرة مظلمة بجوار أمي التي سبقتها إلى هناك قبل ثلاثين عاما ! شعرت بمدى وحدتي و يُتمي رغم أن أبي كان بجواري ! يربت على ظهري من حينٍ لآخر بيده الباردة التي تركتني لدى جدتي و أنا لا زلتُ “حتة لحمة حمرة ” كما يقولون !
تساءلتُ في نفسي هل ندمت جدتي حين تشبثت برعايتي و رفضت باستماتة أن تربيني زوجة أبي ؟! فأنا اعترف أنني لم أكن طفلا مريحا البتة ! فقد كانت لعبتي المفضلة هي كيف استفز جدتي و أُخرِجها عن شعورها ، و كان أكثر ما يثير حنقها أنني لا أؤمن أبدا بمعتقداتها الأثيرة فقد اعتبرتُها خرافاتٍ ضاحكة ، لذلك كانت صيحاتها تتعالى حين تراني أبدأ بالكنس ليلا متظاهرا أني أساعدها ، فتعنفني قائلة :
_ بلاش تكنس بالليل .. هتطرد الملايكة يا ولد …
يجن جنونها حين تجدني أفتح المقص و أغلقه بحركاتٍ متوالية ، فتتعصب :
_ يا ولد هتجيب لنا النحس ف البيت …
ضبطتني ذات يوم متلبسا بارتداء الحذاء بالمعكوس ، فضربت صدرها و صاحت :
_ هو احنا ناقصين فقر يا ولد …

و كانت الطامة الكبرى حين وجدتني أقلب شبشبي متعمدا ، يومها شدت أذني و نهرتني :
الشبشب المقلوب بيجيب النحس و الهم …
أسفل شرفتها مباشرة .. كانت الكراسي مصفوفة بعناية تستقبل المُعزيين ، تمر وجوههم أمامي كأنها بلا ملامح ، تنطق ألسنتهم نفس العبارات التقليدية في مثل تلك الظروف كأنها جُمل صماء ليس لها معنى ! و أنا أفكر كيف ستقضي جدتي ليلتها ! و هل ستؤنسها عظام أمي و جدي ؟!
” خد .. كلم عمتك … عاوزة تعزيك “.
قالها أبي و هو يعطيني هاتفه ، لم تستمر المكالمة سوى دقيقتين لا غير ! مكالمة قصيرة .. باهتة كعلاقتي بعمتي التي لا أذكر وجهها !!
كانت جدتي مقتنعة تماما أن عمتي هي السبب في موت أمي لأنها دخلت عليها و هي حائض ! عجزتُ وقتها أن استنتج العلاقة بين موت أمي و حيض عمتي !
فتأففت جدتي و أوضحت :
_ مينفعش واحدة عندها ظروف زيها تدخل ع واحدة نَفَسَة … تكبسها ع طول ..
يومها جاهدت كثيرا كي أكتم ضحكتي ، أخبرتها أن أمي كانت مريضة بالقلب لذا لم تحتمل ، فنهرتني في غيظ :
_ انت متعرفش حاجة … عمتك كانت خلفتها كلها بنات و كانت غيرانة من أمك عشان جابت الولد .

حين بدأ المعزوون في التناقص .. سألني أبي إن كنت أريد شيئا قبل أن يذهب ، أردتُ أن أخبره أنني احتجته كثيرا من قبل و لم أجده ، احتجت ذراعيه القويتين كي أحتمي داخلهما من قسوة الظروف التي عصفت بي طفلا و شابا ، كدتُ أصرخ بوجهه أنني كنت يتيما و هو حيٌ يُرزق ، كان غضبي عارما ، فتكبدتُ مشقةً هائلة قبل أن أخبره بنبرة فاترة :
_ شكرا .. مش عاوز حاجة …
حين دخلت البيت .. شعرت بتقزمي رغم طولي الفارع ، رأيتُ كل شئ و قد استفحل فجأة بشكلٍ مخيف ! فركضتُ نحو حجرتها و دمعاتي تسبقني ، أرجوها متوسلا أن تعود ، جذبتُ عباءتها البيتية أتنفس رائحتها العالقة بها ، أناديها ملتاعا لعل روحها تأتيني لتعانقني و تهدئ من روعي !!
تنبهت لشبشبها المركون جانبا ! كان مقلوبا على غير العادة ! انحنيتُ لألتقطه و قد ازدادت وطأة دموعي على وجنتاي ، دفنت شبشبها بين أحضاني متأوها من فرط الحزن ، ثم وضعته في مكانه معدولا .
منحتني ابتسامة رضا من خلال صورتها المعلقة ، و كأنها تقول لي أخيرا فعلتها يا ولد !

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى