ط
مسابقة القصة القصيرة

غرف وصُدف . مسابقة القصة القصيرة بقلم / عادل سوالمية / الجزائر

مسابقة القصة القصيرة
عادل سوالمية / الجزائر
00213662921846 / 00213777322498
e-mail: [email protected]
الموقع الإلكتروني: http://www.adel-soualmia.ml
************
غـرف وصُـدف
*****************
ما أروع تلك الظهيرة المشمسة إذ نحن مستلقون على الشعب قرب المدرج “أ”، كم كانت أشعة الشمس مدغدغة للمشاعر المختبئة وراء قلبي الضعيف! كم كان الطقس لطيفا والجمع مؤنسا والأحاديث جذابة والمناظر خلابة.
لم أكن أدري أنّ القلب سيدق من جديد، لم أدرك أنّ الاضطراب الذي اعتراني عندما رشفت الماء عسلا من يدي (عفاف) الناعمتين لم يكن سوى أحد الهزات الارتدادية للفراغ العاطفي و الكبت النفسي الذي يرافقني منذ آخر زلزال غرامي خرّب المناطق الحسية في كياني.
لم أعلم أن الجاذبية القلبية قويّة إلى درجة هجومي الجويّ على يديها دون إعلان للحرب، ودون وعي مني بالدهشة التي تملّكت المجتمع الدولي. كل هذا مخالف لنظرياتي الاجتماعية التي ما فتئتُ أتّبعها منذ أوّل يوم بدأت فيه متعة التّأمّل وحرج التساؤل. قد جهلت حينها أني قد وجدتُ في هذه الفتاة الرّقيقة -ذات الثغر الذي لا يكفّ عن التّبسّم- كلّ مقوّمات الحنان الذي غمرني بدفئه وألبسني ثيابه الفاخرة، ابتداءً من أوّل كلمة وصلتْ أذنيّ الحسّاستين من شفتيها الحلوتين اللامعتين.
لله كم كان يجرّني صوتها الحنون ولهجتها الحلوة بقوة جعلتني أصغي باهتمام مُثبّتا عينيّ الذابلتين أدوّن كلماتها الرّنانة على سلّم موسيقي لا يراه أحد غيري، إذ كان يتمثّل لي صوتها لحنا شجيّا يصدر عن شحرور يحاول إطراب غيره دون أن يفهمه أحد سواي.
أنا نفسي تفاجأتُ بشفتيّ تلامسان أناملها الرّقيقة، وكفّاها الرّطبتان تغريان ما بقي بهما من ماء محظوظ ليغادر يديها العطرتين كمحطة انطلاق نحو جوفي المتّقد نشاطا وحيويّة والمضطرم أشواقا ومشاعر متناقضة.
لقد امتزج ذلك الماء مع عطرها فأحسست كأني حين أرشفه إنّما أرشفها هي في حدّ ذاتها، فصاحب ذلك الماء شعور رائع ليس له في اللذة مثيل. فها هو إعجابي بها يزداد لمّا وثقت بي من أول لقاء وتحجز لي باسمها من مكتبة الجامعة رواية شائقة للرائع عبد الحميد بن هدوقة. ربّما تكون هذه الثقة والطيبة وخفة الروح وجمال الصورة وحسن الصدف هي سبب تعلّقي المبكر والمفاجئ بها….
لن أنسى أبدا تلك النظرة الفيروسية البريئة التي رمت بسهامها مباشرة على الدارة الرّئيسية في حاسوب جوارحي المنكوب أصلا قبيل وصول السهام… كنت أحسب قصّة النظرة الأولى وهْما للأساطير ونسجا لخيالات الشعراء حتى جاءني الخبر اليقين لمّا رأيت (عفاف)… فقد ضربنا موعدا للقاء، وبسبب ذلك تلاشت قوى النوم من عيني ليلتها أمام رغبة جامحة في الكتابة، تحت تأثير المخدر الشعري الذي افتقدته لمدة طويلة حتى ظننتني تخلصت من إدمانه وتحرّرت من قيوده المجحفة التي لا يحلو لها تضييق الخناق عليّ إلا ليلا.
آه كم تعذّبتُ تلك الليلة وأنا أتجرّع أفيون الشّعر لأوّل مرّة منذ أمد بعيد، ولكَمْ كان هذا العذابُ ممزوجا بلذة خفيّة لم يعلم بها جلاّدي الأبديّ. فصباحا وأنا أستلّ سيف اللقيا التقيتُ بصديقتها (سلوى) عند مدخل الجامعة… استقبلتني والبشاشة عنوانها ومضمونها، انفردنا معا في زاوية لا تحرمني من موقع الأمس الذي أصبح يمثّل لي ذكرى رائعة، تلك الذكرى التي تعبّر بأعلى درجات الدّقة عن سموّ القدر وقدرته الرّهيبة على تغيير مجريات الأحداث وإدخال أحداث جديدة على القصص الإنسانية الفاترة، بحيث ينفخ على الرّماد يصيّره جمرا متقدا من جديد.
استمرّ حديثي مع (سلوى) في انتظار (عفاف) التي كانت على موعد مع محاضرة روتينيّة كأنها أرادت أن تودّع بها الفصل الثاني من الموسم الدراسي… وفي هذه الأثناء خرج النصف الأيسر لقلبي وها أنا أراه ماثلا أمامي يقابلني وجها لوجه، محاولا إثارة انتباهي حتى جعلني أتناسى سلوى التي احتارت، وطفقت تسألني عن سبب صمتي وشرودي، بينما رحت أفسّر وأعلل لها ذلك بحبي للتأمل وطبع الهدوء الذي يميّزني غالبا… وما من جملة أنهيها إلا ويبرز النصف الأيسر لقلبي من جديد متمتما نازفا مكلوما:

– ألم تعلم أنّ وردة تتقطّر رونقا وإثارة جاثمة بجوارك تغري بالاستنشاق؟
فأجبته بغضب شديد:
– صه، لست بحاجة إلى مزيد من السّقطات والرّقصات الغبية، لقد سئمت نصائحك المدمّرة…
فقال: “سيّدي إنّ…”
عندها قاطعته :
– لو كنتُ سيّدك لأطعتني من قبل وليس العكس…
سكتَ قليلا ثمّ أجاب بخبث:
– يبدو أنّ عقلك اللعين قد بدأ بالنميمة لقطع حبل الودّ الذي بيننا، فهل نسيت اللحظات الجميلة التي جعلتك تتنفّسها، والأحلام التي جعلتها تملأ رأسك الخرب؟؟؟
قلت:
– لا، لم أنس الدموع التي جعلتَني أذرفها، وكذا المصائب والمصائد التي أوقعتني فيها… ألا دعني وشأني رجاءً فقد جرّبت اقتراحاتك كثيرا ودائما ما كنت أستيقظ على صفعات الحسرة والألم والندم…
– لا تقلق سيّدي المفدّى، هذه المرّة أؤكّد لك أنك ستنجح لو نفّذت تعليماتي بدقة… انظر إلى اللوحة الفنية التي تجلس معك، صدّقني لن تشاهد مثلها حتى في متحف اللوفر…
نظرت إلى (سلوى) قليلا وإلى جمالها الأخاذ وابتسامتها الساحرة فلم أفقْ إلا وأنا أغازلها بلا وعي منّي…. لكأنّي حين أراها يتكشّف لي ذلك القلب الطيب حاويا داخله كل ما هو ثمين ونبيل، كما يتكشّف لي ذلك العقل المستنير محمّلا بالأفكار الكلاسيكية التّي تعبّر عن الزمن الجميل… أبصرت داخلها تلك النفس السّويّة ذات الفطرة السّليمة…
بعد هذا الغوص في بحارها لم أزد عن جمل قليلة أدّت الغرض فاسحة المجال لألسنة الصّمت وهي أبلغ ما يكون أغلب الأحيان.
يبدو أن النصف الأيسر من قلبي لا ييأس أبدا فقد عاد من جديد متأوّها:
– أه لو تفهم قصدي… آه لو تفهمك سلوى
هنا فقط تدخل النصف الآخر معاتبا غضِبا:
– ما بك؟ هل نسيت عفاف؟؟ ما الذي يحصل لك ؟ أم أنك استسلمت لوساوس الأيسر؟

انسحبت بهدوء من المحادثة تاركا نصفَيْ قلبي يتجادلان، وخرجت من اللعبة أتلو الآية الكريمة: {{وما جعلَ اللهُ لرجلٍ مِنْ قلبينِ في جوْفِه}} وكأنّي أحاول أن أبعد عن ذهني ما أراه واقعا مؤكدا، حتى وإن اختلفت مستويات الحبّ والتأثر والاهتمام، وكنت أدعم ذلك بمقولة لا أتذكر منها إلا معناها “قلب المرأة شقة من غرفة واحدة، بينما قلب الرّجل فندق متعدد الغرف….” وبينما أنا على تلك الحال المزرية من التّيه والحيرة فإذا بي أتذكّر بقيّة المقولة وليتني لم أتذكّرها لأنها زادت من حيرتي واضطرابي “…لكنّ به جناحا خاصّا فطوبى لمن تستطيع حجزه”….
إذا اختصم القلب والعقل فاحتكم للعقل، لأننا بالعقل نقرّب إلينا من يستحق وبالقلب قد نحب من لا يستحق … فكل أعضاء الإنسان تخطئ إلا عقله …. وحتى إذا كان القلب لا يخطئ فإننا سنسيء فهمه لأننا عاجزون عن إدراك حقيقة ما يخبرنا به أو ترجمته ترجمة دقيقة صحيحة، ولذلك سنسلّم كلنا بأن القلب أيضا يخطئ…
خرجت (عفاف) عقب انتهاء المحاضرة وأنا في غمرة صمتي وتفكيري… قدمتْ نحونا “تمشي على استحياء” تحاول أن تسرع… فاجأتني بإحضارها لي بعض الماء بين يديها معيدة إلى ذاكرتي صورة الأمس وصراعا في القلب كدتُ أنساه.
أردت التخلّص من التيه والحيرة فودّعتهما وعدتُ إلى غرفتي بالإقامة الجامعية… وجدتُ حصة الأبراج الفلكيّة على إحدى المحطات التلفزيونية، وقد أدركت برجي، برج العقرب:
“ستتطوّر علاقتك العاطفية وتتحسّن تدريجيا، أنت في مفترق الطرق وعليك الاختيار”
فقلت في نفسي:
– سبحان الله… هكذا شاءت الأقدار ومواعيد الصدف…

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى