ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : المهمشون . مسابقة القصة القصيرة بقلم / شنودة ميخائيل جرجس بشاى. مصر

قصة قصيرة
المهمشون

السادسة صباحاً .. تبدو السماء ملبدة بالغيوم السوداء, الجو عاصف, وصفير الرياح يدوي كعواء الذئاب
عم أمين .. رجل طويل نحيل قارب على الستين, يرتدى جلباب بالي بلون مطموس, يحمل على كتفه بؤجة تضم مطرقة وجاكوش وأجنة .. نحت الزمن وجهه بإزميل حاد, فإنساب فيه كما تنساب السكين فى قالب الذبد, حتى بدى كفريسة لذئب مسعور
عم أمين بواب لعمارة فى حى مصر الجديدة, يقطن مع وزوجته وإبنتيه الصغيرتين فى بدروم العمارة, يترك لهم أعمال العمارة, ويخرج هو فى الصباح الباكر كل يوم
سار عم أمين مترجلاً, حاملاً بؤجته الحديدية على كتفه, قاصداً ميدان الجامع
فى مشهد يذكرنا بأسواق النخاسة .. أكوام بشربة متناثرة على أرصفة الميدان, تتفاوت فيها الوجوه والأبدان, ما بين كهل هزيل وشاب مفتول, منهم من يرتدى جلباب وآخر سروال, منهم كثيف الشعر ومنهم الأصلع والأشيب, منهم من تكسو رأسه طاقية ومنهم من يلف شال حول عنقه, .. وأمام كل منهم بؤجة حديدية
حول قصعة مشتعلة ببقايا قفص خشبي يلتف عدد من العمال, يقترب منهم عم أمين, يلقى عليهم التحية ويجلس وسطهم, وراح يمد يديه اليابستين المشققتين ويفركهما بالقرب من النار المشتعلة
مرت بضعة دقائق .. وإذ بكوى السماء تنفتح والأمطار تتدفق بلا هوادة, وراح البرق يزمجر والرعد يضوى
هب العمال يهرولون ويجرون يميناً ويساراً, منهم من إستظل بشرفات المنازل, وآخرون بيافطات المحال التجارية, وآخرون دلفوا إلى مداخل العمارات .. وراحت النار المتأججة فى القصعة تخبو, حتى باتت رماداً غارقاً فى بركة من المياة
جاءت سيارة من بعيد, وراحت تسير ببطء, حتى وقفت فى الجهة الأخرى من الميدان
فجأة !! .. إندفع الجميع دفعة واحدة, كما تندفع الثعالب من جحورها, وراحوا يعبرون الطريق مهرولين نحو السيارة, غير عابئين بوابل الأمطار المتراشق على رؤسهم من كل جهة
فُتح باب السيارة ونزلت منه سيدة خمسينية .. إلتف حولها الجميع, فرفعت يدها ملوحة وهى تقول ..
– شكراً شكراً, أنا داخلة السوبر ماركت
عادوا إلى أوكارهم, يجرون خيبات آمالهم, التى كانت عليهم أثقل من بؤجهم الحديدية
راحت أعينهم من جديد تلاحق وتتشبث بكل سيارة تمر بالميدان ..
لحظات مضت .. وإذ بسيارة أخرى جاءت ووقفت بجوار الرصيف, فتزاحم حولها عدد من العمال
نزل نبيل ( شاب ثلاثيني متوسط الطول ), وقف بينهم وهو يقول ..
– عايز عامل أو إثنين ها يطلعوا شوية رمل للدور الثالث ..
طلب العمال أربعمائة جنيهاً, لكنه أصر على مائتين فقط, فتركوه وإنسحبوا الواحد إثر الآخر .. إلا عم أمين الذى كان واقفاً فى زيل الحشد, هو الوحيد الذى ظل واقفاً .. تقدم ونظر إليه بعينين مهزومتين وهو يقول ..
= خليهم حضرتك تُلتمية, وأنا هاجى معاك
– فى الحقيقة مش معايا غير الميتين جنيه
شرد عم أمين لحظات وهو ينظر للأرض, تذكر زوجته التى تركها تصرخ وتتقلب على فراش المرض كالجمر, وتذكر قوله لها ” ربما يكون اليوم أفضل من أمس وقبل أمس ويأتى لها بالعلاج ” ..
نظر إلى نبيل وقال ..
– إتكلنا على الله .. هو الراضى العاطي
إنطلق نبيل بالسيارة وعم أمين إلى جواره .. فى شارع جانبي أمام عمارة ثلاثة أدوار, وقفت السيارة ونزلا .. وقعت عينا عم أمين على كوم من الرمال جاثم أمام العمارة .. تقدم جهة العمارة وهو ينظر للدور الثالث
راح عم أمين يخلع عنه جلبابه .. فبدى مرتدياً كلسون منحول من الصوف البنى, وصديري أبيض شاحب .. نحى الجلباب جانباً, وأمسك بشيكارة أسمنت فارغة, وهو يحادث نفسه ..
” أنا لازم أجى على نفسى شوية وأطلعهم بسرعة, وألحق أرجع السوق, يمكن ربنا يرزق بشغلانة تانية, حتى أجب النهاردة نص العلاج, وبكرة لو ربنا سهلها أجيبلها الباقى ”
العمارة ملك والد نبيل, يقطن مع والده ووالدته فى الدور الثانى, ويقوم بتجهيز شقته فى الدور الثالث ليتزوج فيها
وقف نبيل أمام العمارة يراقب عم أمين .. كان عم أمين ينحنى بركبتيه على الأرض .. ثم يقوم بتعبئة الرمال فى الشيكارة .. ثم يقوم برفعها على كتفه .. ثم يصعد الدرج وهو حامل الشيكارة, حتى يصل إلى الدور الثالث .. وهناك يقوم بتفريغها .. ثم ينزل ليعبئها مرة أخرى, ويصعد بها ثانية وهكذا ..
شعر نبيل بأن ما يقوم به عم أمين هو عمل شاق ومضني, وأنه كان ظالماً فى إتفاقه معه على مبلغ المائتين جنيهاً, فهى أقل بكثير مما يستحق
راح نبيل يفتش يميناً ويساراً فى جيوب قميصه وبنطاله, عله يجد أى مبلغ آخر تبقى بعد دفع ثمن الرمال, لكنه لم يجد سوى المائتين جنيهاً, وخمسون جنيهاً أخرى كانت فى جيب البنطال الخلفى ..
أمسك بتليفونه المحمول ليسأل والده, الذى كان فى زياره مع أمه لدى أخته, عما إذا كان تاركاً أى نقود فى المنزل .. لكن التليفون كان خارج التغطية .. حاول مرة ثانية وثالثة على تليفون أبيه وتليفون أمه, دون فائدة
نظر نبيل إلى عم أمين الذى بدأت قواه تخور .. شعر بالذنب بسببه, ولم يدرى كيف يساعده .. دخل شقة والده عله يهتدى إلى شئ ما
بعد مضى نصف ساعة, خرج نبيل حاملاً فى يده اليمنى صينية مستطيلة عليها كوباً من الشاى وساندويتشين من الجبن وبعضاً من شرائح الطماطم, وكان ممسكاً فى يده اليسرى بكيس بلاستيكي
وضع نبيل الصينية على الدرج وهو يقول ..
– تعال يا عم أمين ريح شوية, وإشرب الشاى
نهض عم أمين عن الأرض .. جلس على الدرج وهو يقول ..
= تَعبت نفسك لية بس يا بية ؟ .. ما كنش فى داعي
مد نبيل يده القابضة على الكيس البلاستيكي قائلاً ..
– خُد دول يا عم أمين !! .. بنطلون وبلوفر ضاقوا عليا شوية, يمكن يجوا على قدك
إبتسم عم أمين, قال وهو يأخذ الكيس ..
= تسلم إيدك يا بشمهندس .. ربنا يعوض عليك
دخل نبيل الشقة .. وبعد لحظات خرج وهو يحتسي فنجاناً صغيراً من القهوة .. وإذ بعم أمين يمد له يده, ممسكة بورقة مالية من فئة المائتين جنيه وقال ..
انا لقيت الميتين جنيه دى فى جيب البنطلون اللى كان فى الشنطة
ابتسم نبيل بمزيج من الذهول والرضا .. جلس على الدرج بجوار عم امين قائلاً ..
– انت راجل طيب يا عم أمين, وربنا راضى عنك !!
بدى وجه عم أمين وقد كسته البهجة والبشاشة وهو يقول ..
= الحمد لله فضل ونعمة
وضع نبيل يده فى جيب قميصه وأخرجها ممسكة بمائتين جنيهاً, وراح يقول ..
– دى الميتين جنيه اللى إتفقت معاك عليها .. لكن الميتين جنيه اللى معاك, دى مش بتاعتى .. دى أكيد ربنا عارف إنك محتاجها عشان كدة هو بعتهالك !! ..
تـمـت

الاسم : شنودة ميخائيل جرجس بشاى
اسم الشهرة : سيناريست شنودة بشارة
البلد : مصر
رقم التليفون والوتساب : 01225670451
لينك الفيسبوك : https://www.facebook.com/scenarist.arteenalmasry
فرع المشاركة فى المسابقة : قصة قصيرة بعنوان ” المهمشون “

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى