ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : بنات البئر . مسابقة القصة القصيرة بقلم / علياء هيكل . مصر

علياء هيكل . مصر
مسابقة القصة القصيرة

01001803813

بنات البئر..
محملقة بدهشة تستمع إلى حكاية جدتها، متعلقة في شغف بعينيها الغائرتين. تخبرها عن بنات يختطفهن الجن، فيخفيهن بمكان بعيد لا رجعة منه، في أرض غريبة لا يعرفها بشر. وتهب الصغيرة مراوغة لخوفها، تسألها مشفقة في حيرة – كيف يخطفهن الجني.! ولماذا لم يستغثن بآبائهن..؟ – حبيبتي، هن من تعاجبن أمام المرآة، فعشقهن الجني، هن المخطئات حبيبتي وليس الجني. – لمَ لم يتلين آية الكرسي، ألم يقل جدي أنها تحرق الجن ..؟! – لم يستطعن بنيتي، الجني يأتي في غفلة، يخطف في غمضة عين .. – وهل مي، ابنة أم هشام، جيراننا، اختطفها أيضاً ذاك الجني ؟ – نعم، اختطفها الجني.. قالتها الجدة وهي تسحب رشفة من فنجان قهوتها الباردة، متنهدة بحسرة مطيّحة بنظرها خارج الشرفة، وقد طفت على صفحة عينيها لمحة حزن سريعاً ما غارت. هجرت كل مرآة، خافت، لم تجرأ حتى ولو لطلة، هرباً من عشق الجني المتربص، فيخطفها حتى وقبل أن تتلو عليه آية الكرسي والتي حرصت على قرآتها كل ليلة، قبل أن تنام وبعد أن تصحو، وقبل أن تستحم وبعد أن تستحم، وحين تمشط شعرها الطويل الخيلّي، وحين تخلع ملابسها عن جسدها المرمري وحين ترتديها.. وذات يوم حين تقرب معروف، هذا الفتى الوسيم الهادىء، مصرحاً لها بحبه وأنها أجمل ما رأت عينيه، فقالها بصدق وبدفء غريبين.. صدقته، فهي لا ترى نفسها، ولم تتحقق من جمالها بنفسها، وكيف لا تصدق وهو وسيم بوجه ملائكي بما يكفي كي تصدقه..! ولما اختليا ببعضهما أول مرة في الغابة، ولم تسترهما عن عين الدنيا إلا ظلال الأشجار، حينها قال بكل صدق – ” الآن أنت زوجتي أمام الله. ” ابتسمت وصدقت وكيف لا تصدق وجهه الملائكي.! لم يمض الكثير من الوقت حتى أصابها الإعياء والضعف، فظلت تفرغ ما بمعدتها على مدار أيام، رمقتها أمها بنظرة ريبة، وحينها سكتت جدتها عن الحكي، واتخذت من الصمت وجهاً كئيباً. قرر أبيها أن يأخذهم جميعاً هي والجدة وأمها وأعمامها ونسائهم إلى نزهة بالغابة، علها تتعافى وحتى تعود جدتها للحكي من جديد. سار الجميع على مهل صامتون، ينظرون أمامهم نحو الغابة، مشت شاردة ما بين جدتها وأبيها الذي بدا لها أهدأ من أي وقت مضى. افترشت النساء الأرض واتخذ الرجال الحجارة مقاعد لهم.. أخذت النساء يخرجن الأطعمة في هدوء ثقيل، يرصونها برتابه، والجدة جالسة على حجر كبير، متكئة بكفيها الصارمين على عصاها الغليظ ،عيناها معلقة في حسرة بحفيدتها المريضة. دعاها أبيها أن يذهبا معاً في جولة سريعة، فالنسيم عليل يشفي العليل، تعلقت أختها الصغيرة بيده تريد الذهاب معهما، جذبتها أمها إليها بحزم ولم ترفع عينيها عن الأرض: – لا، إبق أنت هنا ولا تكونِ عنيدة. قامت رنا تنفض عن ثوبها الملون ما علق به من تراب وأوراق الأشجار الجافة، أمسك أبيها بيدها الرقيقة ضاماً عليها بين أصابع كفه الضخم، ومشيا وسط الأشجار حتى غابا فيها. فتراءت أمام عينيها لقاءاتها الدافئة مع معروف في أحضان تلك الأشجارالعالية، واسترجعت في لحظات خاطفة حلاوة كلماته الساحرة. لم تره منذ أن أخبرته بحملها وخوفها من افتضاح الأمر. رغم وعده بعدم التخلي وأنه سيأتي مع أهله لخطبتها الأسبوع القادم، فهي أجمل ما رأت عيناه. ومرت ثلاثة أسابيع ولم يأتي، انقطعت أخباره وقاطعها.. اختفى فجأة كما ظهر فجأة. – رنا.. هلّا تجذبي لي طرف حبل الدلو لنجلب لهم بعض الماء من البئر. انتبهت من شرودها على صوت أبيها وألقت نظرة على الدلو الملقى جوار البئر، والذي لم تنتبه له قبل الآن، أومأت برأسها طاعة لأمرأبيها، والتقطت طرف الحبل ومدته إليه. – لا، هيا أنزلي أنتِ الدلو إلى البئر. أنزلت الدلو ببطىء وحذر، أخذت ترخي الحبل شيئاً فشيئاً، أحست بذراع أبيها يحيطها من حول خصرها النحيل. – لا تقلق بابا لن أقع.. لم يتكلم، رفعها عن الأرض، فتدلت قدماها، وتذكرت كيف كان يحملها ويدللها في طفولتها الأولى، فابتسمت ونظرت له مطمئنة، وما لبثت أن تحولت الإبتسامه إلى شهقة فزع حين شعرت بجسدها يهوى في حلق البئر، لا زالت قابضة بقوة على الحبل، يسبقها الدلو إلى القعر، صرخت بقوة تنادي أبيها. كان سقوطاً طويلاً، ظنت أن لن ينتهي أبداً، سمعت صوت عظامها تتكسر عندما احتنضنتها بقوة أرض البئر السوداء الرطيبة، آلام عنيفة تهاجم كل عظمة في جسدها الصغير، رأسها ينزف بقوة. نظرت إلى أعلى تنادي ودموعها تتساقط من ركني عينيها.. – أبي .. رأت وجهه بعيداً في طاقة البئر، ناظراً لها بغضب هدأ للتو، لم يُجب ندائها وانسحب وغاب. ذراعاها متدليتان إلى جوارها، رجليها مهشمتين ملتوية من تحتها، يتدفق من بينهما سائل دافئ كنهر جارٍ، دارت عينيها في المكان، والشمس تلك الشاهدة الوحيدة، تلقي ببعض أشعتها نحو القاع السحيقة، فرأت من حولها هياكل من عظام متراكمة، مهشمة، كلها ترتدي أثواب كانت ملونة يوماً ما، غير أن الموت يمتص كل الألوان، فالتمعت من حول عنق احدها، سلسلة ذهبية، تعرفها وتذكرها جيداً، كم تمنت أن يكون لها واحدة مثلها، إنها سلسلة مي.! ابنة أم هشام تلك التي قالت عنها الجدة، أن الجني اختطفها حين اختفت من بينهم فجأة، ومرت السنوات ولم تعد مي، تاهت في الأرض البعيدة. ناظرة بوهن لأعلى ، وبالكاد تفوهت همساً مختنقاً وقد أوشك قلبها على الأفول: – جدتي.. إنها هنا..! مي، هنا يا جدتي لم يخطفها الجني.. لم يخطفها يا جدتي..! يضيق عليها المكان، ويتسع أمامها ذاك الضوء العجيب الذي ابتلع أشعة الشمس، فتطفو في الهواء بخفة، مبتعدة عن جسدها الهامد المعكوف، ولأول مرة منذ كانت طفلة، ترى وجهها المخطوف. وقالت بغرور بريء: – إنني جميلة، كما قال لي معروف.. رجع الأب صلب كما لم يكن من قبل، يرفع رأسه بعصبية غريبة، فنظر إلى اخوته نظرة فهموها، ولملمت النسوة بسرعة الأطعمة والملاءة التي افترشوها، وقد تبددت الرتابة وحلت محلها انفعالة حاولوا أن يخفوها..! مطأطاة رأسها، أسندت الأم الجدة تساعدها على النهوض، وقد التمعت بعينيها دمعتان تأبى السقوط، فأمسكت الصغيرة بيد أبيها قائلة: – يا أبتي أين ذهبت أختي ؟ هل سنرحل دونها ؟ نظر الرجل إلى العجوز التي سارعت، فأحاطت الصغيرة بذراعها، ومشت متكأة عليها تضرب بعصاها الأرض العتيقة، قائلة بثباتها المألوف: – هل حكيت لكِ حكاية البنت التي اختطفها الجني ..؟ فقالت بنظرة طفل شغوف – لا، من هي؟ ولماذا اختطفها الجني..؟! – تعالي، سأحكيها لكِ.. وتابعوا خطواتهم عائدين، حين كانت بنات البئر يرددن، في صوتٍ حزين كأنه الأنين: ” لا لم يختطفنا الجني.. لا تصدقيهم .. برئ منا الجني.. برئ منا الجني ” ومن ورائهن نادت رنا كطفل ملهوف. جدتي، إننا هنا.. ! مي وأنا ، هنا يا جدتي لم يخطفنا الجني.. لم يخطفنا يا جدتي..

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى