ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : جدائل الرحيل . مسابقة القصة القصيرة بقلم / أحمد محمد الطيب اسماعيل ..مصر

مشاركة في مسابقة مهرجان همسة الدولى للآداب والفنون – القصة القصيرة

الاسم : أحمد محمد الطيب إسماعيل

العنوان: مصر- المنيا– سمالوط– قرية العوايسة

رقم الهاتف ورقم واتس أب: 01008591604

رابط صفحة الفيس بوك:

https://www.facebook.com/abn.eltyeb

 

 

 

جدائل الرحيل

نجلس إلى جوار أبي، تتعلق زينب برقبته، يُهَزْهَزَها وهو يغني لها، تأتي أمي بحلة البطاطا الساخنة، تضعها فوق سجادة الصالة، نمد أيدينا، نطقطق أصابعنا من سخونة البخار، يُخرج أبي سيجارة، تنهض زينب، تردد بصوت عال:

– أنا.. أنا.

تذهب، وتحضر علبة الثقاب. يسألني أبي إذا كنت دفعت مصروفات المدرسة، أجيبه:

  • نعم يا أبي، وأعطوني الكتب الجديدة.

أذهب إلي حجرتي، أحضر حقيبتي. برغم أنني في الصف الثاني الثانوي، لكنني متمسكة بعادة أن يكتب أبي اسمي على الكتب الجديدة، كتب أبي بخط الرقعة الحسن، دكتورة وفاء أحمد حسين، قبلته في جبينه، كتب لأختي أميرة أيضاً. نُقلّب صفحات الكتب، نفرح حين يعلق أبي على إحدى الصور أو الموضوعات، بعد أن نعيد الكتب إلي الحقائب، نعود إلى البطاطا، تكون قد بردت قليلاً، يجلس أبي ناظراً إلينا، مركناً رأسه إلي الحائط، ماداً ساقيه الطويلتين، كساق شجرة طيبة يبَّسها العطش.

بعد أن نأكل، ننهض، نُقبل يد أبي وأمي، نذهب إلى حجرتنا، بعد وقت قليل ينطفئ ضوء الصالة، وتضاء السَّهارة، يغمر ضوؤها الأصفر الشاحب البيت، تستسلم أُخْتَاي للنوم سريعاً، أتقلب قليلاً، أتابع صوت المُنَبِّه:

  • تك.. تك.. تك.

بينما تبرق عقاربه الفُسفوريّة في الظلام. أسمع صوت أمي خافتاً مختنقاً:

  • تعمل كل هذه السنوات، وحين تمرض لا يعالجونك!!.

يرد أبي بنبرة مستسلمة:

  • العلاج يتكلف أموالاً كثيرة، والقائمة طويلة جداً..

يسعل أبي، يقول بصوتٍ مجهد:

  • هل تُصدقي؟ وجدت “عبد الحميد بك”، وكيل الوزارة السابق، يُقدم هو الآخر طلباً للعلاج المجاني، شعر بالحرج حين رآني.

تقول أمي بأنفاس مجهدة:

  • انتشر هذا المرض، يأتي بدون مقدمات.

يتنهد أبي:

  • مكتوب.

دارت الدنيا بي، لم أصدق ما سمعت، نهضت؛ لأذهب إلي حجرة أبي، أرتمى في حضنه، أطمئنه، أطرد الخوف عنه، مثلما يفعل معنا دائماً.

وقفت عند باب الحجرة، تجمدت أطرافي، عُدت إلى فراشي، أجهش بالبكاء، كيف أستطيع أن أرى في عينيه نظرة ضعف، وهو من يمنحنا القوة. مرّت ساعات الليل بطيئة، من وقت لآخر أسمع أنات أبي.

في الصباح كان أبي يجلس في الصالة، قبلتُ يده، رأى الدموع في عيني، اللتان أرهقهما السهر والبكاء، لم يسألني، وكأنه قرأ كل شيء فيهما، أخرج سيجارة، قلتُ في ترجٍ:

  • يا أبي.. لا داعي.

أبتسم في ضعف، أومأ برأسه، ارتميت في حضنه، بكيت، لم أنظر إلي عينيه؛ حتى لا أرى دموعه..

في عربة المترو وقفت شاردة، أترك جسدي لهزات القطار، أنظر إلى لافتات المحطات. في الفصل لم أتحدث مع أحد، ولم أسمع أي كلمة مما قاله الأساتذة.. الأن فقط فهمت، لماذا يلبس أبي طَّاقِيَّة فوق رأسه طوال الوقت، لماذا يحمل حقيبته الصغيرة، ويغيب باليومين، وتقول أمي أنه في مهمة عمل؛ يعود بعدها ضعيفاً منهكاً، لماذا باعت أمي مصاغها، وباعت أشياء أخرى من البيت، لماذا هي حزينة شاردة دائماً. أفقت من أفكاري، تكهرب جسدي فجأة، حين شعرتُ بيد تتحسس جسدي، نظرتُ في خوف، كان معلم اللغة الفرنسية، يقف بجوار مقعدي، مستغلاً شرودي، مستنداً بكوعه فوق المسند، ابتعد حين رأى ملامح الغضب تَكسو وجهي، شعرت بدقات قلبي تزداد، وبرودة تسري في جسدي. مرّ اليوم الدراسي ثقيلاً كئيباً. في طريق عودتي، أنظر لساعتي من وقت لأخر؛ كأني أستجدى الوقت؛ لأصل سريعاً إلي البيت، فكرت فيما فعله معلم اللغة الفرنسية، كيف يجرؤ علي ذلك؟ إلي هذا الحد يبدو الإنسان ضعيفاً، حين يشعر الناس بأنه يتألم؟!.

حين وصلتُ إلى البيت، لم أشارك أُخْتَيَّ مزاحهن، ولم أجلس طويلاً، ذهبتُ إلي حجرة النوم. في الليل تذكرت معلم اللغة الفرنسية وبكيت، فكّرت في أبي وبكيت أكثر. حين انتصف الليل، نهضتُ، فتحت باب حجرتي بهدوء، وقفتُ بجوار حجرة أبي:

  • سامحني يا أبي، لا أقصد أن أتجسس عليك، اعذرني لأني أحبك.

لم يحدث شيء، فقط صوت الأنين المكتوم، وبكاء أمي. عدتُ إلي حجرتي، غالبني النعاس، استيقظتُ قبل موعد استيقاظي، بدّلت ملابسي، رسمت ابتسامة باهته على وجهي. في الصالة يجلس أبي، جلسته المعتادة.. ماداً ساقيه، ومسنداً رأسه إلي الحائط، قبلتُ وجهه وجبينه، جلست بمحاذاته، أتأمل صورته المعلقة على الحائط، صورة بالأبيض والأسود، شاباً طويل القامة، عريض الجسد، مُفرقاً شعره من المنتصف، عيناه لامعتان، وابتسامته تشع أملاً، وأمي إلي جواره، جميلة ممشوقة، بوجه طفولي. وبجوار صورة الزفاف، شهادة أداء الخدمة العسكرية.

جاءت أُخْتَاي، يبدو على وجههن أثار النوم، جلست أميرة إلى جواري، وتعلقت زينب برقبة أبي، أخذ يُهَزْهَزَها مثلما يفعل، لم أشعر به ضعيفاً، مثلما هو الآن، كدتُ أن أصرخ فيها، لكني تراجعت.

في الفصل استسلمت لشرودي، دون خوف؛ ليس لدينا حصة لغة فرنسية اليوم. رسمت دوائر متداخلة، وأسهم متقاطعة، مرت ساعات الدراسة ثقيلة مثل اليوم السابق.

حين عُدتُ إلي البيت، لم يكن أبي وأمي في البيت، وجارتنا تجلس مع أُخْتَيّ، سألتها عن أبي وأمي، أخبرتني أنهما ذهبا لقضاء بعض الأمور، صرخت فيها:

  • أنا أعرف كل شيء، لست صغيرة، أخبريني بالحقيقة.

احتضنتني بين ذراعيها. أكل أُخْتَاي الطعام الذي أعدته أمي في الصباح، جلسنا في الصالة، أعينهن معلقةً بي، وعيناي معلقتان بصورة أبي وأمي. نهضتُ مسرعةَ، فتحت نافذة المطبخ، المغلقة دائماً، حيث يقف جارنا، في المرات القليلة، التي كانت أمي تضطر إلى فتحها، كانت تسبه، حين يشير لها أو يبتسم، عندما رآني أفتح النافذة، اعتدل في جلسته، نظر إلىّ باسماً، بصقتُ في وجهه، أغلقتُ النافذة، احتضنت أُخْتَيَّ، رَبَّتُ علي رأسهن. في المساء جاء أبي، يحمله بعض الرجال، أرقدوه في فراشه، بكت أُخْتَاي حين رأين أبي، أخذتهم جارتنا إلي الحجرة. لم يستطع أحد أن يحركني من مكاني. جلستُ بجوار أبي، أنظر إلي عينيه الذابلتين.. يُريد أن يقول ليّ شيئاً، ألقيتُ بنفسي فوق صدره.

في الصباح ذهبتُ إلي المدرسة، كما طلبتْ مني أمي. في حصة اللغة الفرنسية، حين حاول معلم اللغة الفرنسية أن يمد يده إليّ، نظرتُ إليه، حاولت أن أصرخ فيه، لكن صوتي انحبس، انحدرت دموعي قاسية، ابتعد حين وجدني أبكي في حرقة.

عندما ذهبتُ إلي البيت، كانت أمي تصرخ، والنساء يشاركنها البكاء، وأختاي كقطتين مذعورتين، تتنقلان بين الأفراد، فهمتُ كل شيء. ذهبتُ إلى حجرة أبي، حاول بعض الرجال أن يمنعوني، لكنني صرختُ فيهم، امسكني رجل مُسن من يدي، فتح باب الغرفة في هدوء، وهو يربت على كتفي، كان أبي فوق الفراش مسجي، رفعت الغطاء عن وجهه، عيناه مغلقتان، وجهه  ساكن، اقتربت منه، قبلت جبينه، عاتبته:

هل سترحل يا أبي وتتركنا؟، هل سترحل ونحن نحتاج إليك؟.. أحتاج إليك لتؤدب معلم اللغة الفرنسية، أمي تحتاج إليك؛ لتوقف جارنا عند حده، نحتاج إلي صدرك الحنون، ويدك الطيبة تُمسّد رؤوسنا، يا أبي لا ترحل الأن… 

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى