ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : سلب الإرادة . مسابقة القصة القصيرة بقلم / أحمد الوارث . المغرب

الاسم: أحمد الوارث

البلد: المغرب

الفئه: قصة قصيرة

الفيس بوك: https://www.facebook.com/profile.php?id=100004217915859

سلب الإرادة

في الركن المعتاد من الحانة جلسنا. لكن، على غير العادة، تكلم نديمي، الذي كان صمته من دون ضفاف حتى تلك اللحظة؛ قال بلسان فصيح: بينما أنا أنظر إلى السقف، تلك الأمسية، رأيت، كما يرى النائم، ورقة تسقط من شجرة، ثم تعانق نفسها، وتتهادى في الفراغ. كلما تحركت تطاير منها ما يشبه الوميض، في كل وميض صورة. ولأن المسافة كبيرة لم تكن الخطوط واضحة، فالبعد الزائد تغيب فيه الكثير من التفاصيل. بيْد أني كنت أستطيع تمييز الوجوه والكتابات ذات الحرف البارز.

نظرت إليه باندهاش، ثم همست له في أذنه: هل نغادر؟ يمكنني أن أصحبك حتى باب المنزل.. يبدو أنك سكرت…

رد علي قائلا: لا تقلق، واترك التعقيب إلى النهاية.

اسمعني… كانت الورقة في رقصها تهوي حتى توشك أن ترتطم بالأرض، ثم تعلو إلى أن تغيب عني في الفضاء. تكرر هذا المشهد أمام ناظري مرة تلو مرة، فجعلني استحضر أمورا كثيرة…

حدقت فيه مليا، وقلت له: مثل ماذا؟

كان مما استحضرت، مسألة العروج إلى السماوات؛ ساعتها بدا أنني متأثر بها حتى النخاع، بصرف النظر عن المآل، أكان هو فردوس النعيم أو جنات زرادشت، أم كان حدائق بابل أو فرات عدن، مادامت كلها ترى المستقبل في السماء. ورغم اندهاشي، مما كنت أراه، كانت المتعة بما أشاهده تبلغ بي حد الطرب. لقد كانت الصور التي تنزل بها الورقة نحو الأسفل، لأناس أعرفهم جميعا. إناث وذكور، بعضهم لصوصٌ كبار، ونشّالونَ صغار، وانذال مشهورون، وبعضهم محترمون، لكن!! لم آبه بشيء ولا بأي شخص منهم، رغم ظهوري بينهم، لأن بالي ظل مركزا على الصور التي تعلو بها الصحيفة.

قلت له: ربما لأنها لم تكن واضحة، أليس كذلك؟

لا أدري… لا أدري… ظننت، في البدء، أني، من عسر أوقاتي، أصنع لنفسي متعة من خيال في عالم مجهول. لكن عقارب الساعة المعلقة على الحائط جعلتني أوقن أنني اعيش لحظات مختلفة. وأنني في امتحان حقيقي؛ امتحان العزلة الخارقة عن كل ما يحيط بي. كان العقربان يُشْعِراني بأني أفقد بعض الوقت من حياتي، أغيب فيه عنّي، تحت وطأة حال ما، فيصرفني، بحُكمه، عني، بحيث لا أقوى على تدبير نفسي، وأنني، كما المجذوب الراجع، أفقد زمام أمري قبل أن أستعيده ثانية.

-متى حصل لك هذا، متى؟

-كانت المرة الأولى منذ مدة… ثم صار الحال يأخذني، بنظام وانتظام، كلما استلقيت على ظهري، ووضعت يدي خلف رأسي، ساعتها يكفي أن أنظر إلى السقف. وما لا أنساه مرة، أن الحال نفسه انتابني، فرست عيناي على الورقة نفسها، وهي تكاد تغيب في السماء بما حملت…

-وما الذي حملته يا صاح؟

– امرأة، نعم امرأة، مثل قضيب الخيزران، تمشي بتؤدة ورفق، وبين الفينة والأخرى، تنظر خلفها مبتسمة بأحلى ما يكون التبسّم. هاته اللوحة الشاعرية أصابت الخاطر في الشغاف.

– الله الله، المرأة، مرة أخرى؟

+نعم، كانت تمشي. في عالم بالأبيض والاسود، تمر عبر طرقات مألوفة، وديار معروفة؛ حتى إذا بلغتْ بعض الأمكنة توَقفت والتفتت، كأنها تذكرني بعتبات لم أعرها اهتماما، في زحمة الشرود أو ربما الخوف من تكسير القيود، أو لمُصانعات الخواطر وإرضائها، أو ربما لأني ومن كنت أقابله، ساعتها، لا نتحدث باللغة نفسها، أو ربما من لا شيء سوى الطبع القوي.

هكذا، تكررت غيباتي، أو لعلني كنت أهيئ لها الظروف لأعيش طقوسها، حتى صار لي ركن خاص بي لا أرتاحُ سوى فيه. لا أخفيك، استبدّ بي هذا الحال، حتى قررت أن أروي الحكاية لصديق عزيز. أو لستَ عزيزا؟

كنت قد أسندت خدي على يدي، أتأمل في الحكاية، حتى كادت عيناي تفيض دمعا، ثم قلت: لا عليك يا صديقي. إنه الهروب، إنه الندم!! سمِّه ما شئت، للأسف صديقك هذا لن تنطلي عليه قصة الحال، أنا أيضا لدَيّ ركن خاص، أحصي فيه، مثلك، خساراتي، لكن ما تراه أنت في السقف، أقرأه أنا على أمواج البحر..، لها أحكي… لأني أدرك جيدا أن الوقت قد فات لأتدارك الأخطاء. حالك أفضل من حالي بكثير، لأنك، استطعت أن تبوح بمعاناتك، لتكون عبرة لمن لا يفهم الرسائل العابرة إلا بعد فوات الأوان، وأن عليه أن ينظر إلى الخلف ليعيد ترتيب الأوراق بين الفينة والأخرى، قبل أن يجد نفسه محاصرا…

كنت أكلم نفسي، وأنا أنظر إلى الأرض.. وحين رفعت رأسي لم أجد ثمة أحدا سواي، وعشر قوارير فارغة تلمع… في الظلام.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى