ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : عيال ..مسابقة القصة القصيرة بقلم / السيد المرشدي ..مصر

مهرجان همسة للفنون والآداب 2024
السيد المرشدى ( مصر )
قصة قصيرة ( عيال..!!)
————-
قصة قصيرة.
( عيال..!! )
كنتُ طفلاً صغيراً، ألهو مع أطفالِ الجيران طوالَ النهارِ وجزءاً من الليل، نجوبُ شوارعَ البلدةِ الصغيرة ، نلعبُ الكرة الشراب بالنهار،والاستغماية بالليل. وفى الصيفِ حيث إجازة المدرسة الطويلة، كنتُ أخرج بعلبة من الصفيح ” أشتُ ” فيها خميم البلح، ألتقطه من بين عيدان الأرز التى اشتدّ عودها وقاربتْ على التسبيل ، حتى إذا امتلأت العلبة، ذهبتُ بها إلى الجدة ” عريفة ” فتدفع لى نصفَ قرش، أطير به إلى الدكان؛ فأشترى به حلوى آكلها لوحدى غالبا، وأتقاسمها مع بنت الجيران أحياناً. كانت تكبرنى ببضع سنوات، لكنّها لم تدخل المدرسة، فقد كان بعضُ أهلنا يَستعيِّبون خروج البنت إلى المدرسة والاختلاط بتلاميذ غرباء، لكنهم لم يكونوا يستعيِّبون أبداً خروجها للعمل فى الغيطان مع غرباء أيضا. ولما افتُتح القسم الليلى بالمدرسة القديمة، ذهبتْ مع قريناتها لبعض الوقت؛ فتعلمن مبادىء القراءة والكتابة.
كبُرنا قليلاً، لكن لم تتغير نظرةُ أهالينا نحونا، فنحن ” عيال ” . الولدُ يلعب مع أقرانه .. عيال، والبنت تلعب مع الولد .. عيال، وتترك الأمُ ابنتها وحيدةً مع ابن الجيران فى البيت، وتخرج لقضاء بعض حاجاتها .. عيال.
وكانت أمى وأمها قريبتيْن وصاحبتيْن فى نفس الوقت، تغسلان ملابس الأطفال معا، وتخبزان للبيتين معا، وتذهبان للسوق معا، وتساعد كل منهما الأخرى فى شؤون الزرع والغيط، وقد تذهبان فى قضاء مصالحهما وتستغرقان وقتا يطول أو يقصر، وتتركانا معا .. عيال.
وفى ليلة، كان الصيفُ فيها يودع، وحرارته المتلاشية تلفح وجوهنا بحنانٍ بالغ. الفرنُ فى الحوش تحت شجرة ” الجهنمية ” تنثر عليه ظلالا خفيفة لا تمنع ضوءَ القمر من أن يتسرب على الأرض، ويغطى بنوره الهادئ وجه ” لقَّان العجين “، فيغمسُه بنور الهوى، ويخفف عنه آثارَ نار الفرن اللافحة، قبل أن تقذف المطرحة بأرغفته على عرصة الفرن فوق نار حطبٍ جاف تشعله أمى أو صاحبتها، فتُشَم رائحةُ الخبزِ المحُمَص من بعد مسافات ، وتُلقى إحداهما لنا بقطع من رغيف خرج توا على سِن المصماع المدبب، فتلوكه ألسنتنا وتنقله بين فك يمين وفك شمال هربا من سخونته الحارقة، ونملأ أفواهنا ضحكا، خاصة الأطفال الصغار بيننا، عندما ينقلب صراخُهم ضحكا بريئا، وأحدهم يتقيأ ما لاكه بين فكيه ولم يستطع ابتلاعه. تنظر إلىّ جارتى الصغيرة، تحت ضوء القمر، وأبادلُها النظر، فتثير فى نفسى مشاعرَ مكبوتة، وكوامنَ مخبوءة، لا أدرى لها معنى أو تفسيرا إلا مشاهدَ مدفونة فى ذاكرتى، أحاولَ أن أدفنها أكثر فى الأعماق كى لا تطفو على السطح، كنتُ رأيتها قبل أيام فى منامى.
ويداعب النومُ أجفاننا .. نقاومه بكل ما أوتينا من قوة، نريد أن نُكملَ سهرتنا ولعبنا، لكنَّه غلاب يُطبق الجفن على الجفن جبرا وغصبا، فيصدر الأمرُ لنا من إحدى الصاحبتين بالنوم لكى تتفرغا لعملهما، فيما تفرش لنا الأخرى حصيرا جافا من بوصِ السمار، وتلقي علينا بخلاقين قديمة كانت تغطى بها ” لقان العجين “.
نتراصّ فوق الحصير، لا يهم مَن ينام بجوار من.. الرضيع بجوار الكبير، والولد بجانب البنت، فقد كان أهالينا – كما يخبرون – يستحمُ الشباب منهم مع الفتيات الناهدات، بملابسهن طبعا، فى الترعة أو الخليج بعد انتهائهم من شتل الأرز مطلع الصيف أو عند حصاده مطلع الخريف، ولا يدور بخلدِ أىٍ منهم شىءٌ ما..!!
كنت فى الوسط بين الأطفال.. يفصلنى عن جارتى شقيقُها ذو السنوات الثلاث، فى نومتى خُيل إلى أنه جلس يبكى، ثم تحول عند أقدامنا. أشعر بأنفاس جارتى قريبا منى .. أنفاسٍ حارقة مثل نار الفرن، قريبا جدا منى؛ صدرها الناهد يكاد يلامس صدرى، فأشعر برعشة فى جسدى.
استيقظنا بعد سويعات عندما انتهى الخبيز، وكلٌ من الصاحبتين تلملم أرغفتها وحاجاتها، ولا أدرى أنّى ربما تبولت على نفسى أم لا. ملابسى الرقيقة تحتها المقطعة، ليس بها بلل، لكنى شعرت بلزوجة ما؛ من المؤكد أنى رأيت فى منامى ما سبق أن رأيت.
ومرت أيامٌ طوال لم أرّ فيها جارتى، لم تعدْ تخرج للعبِ معنا،نحن الصغار. أستحث أمى للذهاب إلى بيتهم، لا أراها. سمعت أن عريساً من بلاد العرب جاء يخطبها، عجوز أى نعم ،لكنّه غنى يريد ” الولد ” بعد أن رُزق ببنات ست. كدتُ أثور وأُجَن، لكنّى خفتُ فكبَتُّ ثورتى وجنونى وسكتُّ؛ سنُحرَمُ من اللعبِ معها وستُحرم هى كذلك.
وقُضى الأمر فبعد ليلة أو اثنتين من انتشار الخبر، جاءها الغريبَ وأخذها، بعد أن كساها بغالى الثياب وقيَّد يديْها وعنقَها بسلاسل الذهب.
ومرت بضعةُ أسابيع ، سمعنا زغاريدَ وصيحاتِ فرحٍ فى بيت جارتنا، ونساء يدخلن، وأخريات يخرجن، يباركن ويهنئن، وما كان لأمى أن تتأخرَ عن صاحبتها، فاقتادتنى معها عُنوة. حِلل الشربات تملأ البيت، وأمى تحتضن جارتها :
– يتربى فى عز أبيه وعزكم، “إن شا الله يكون ولد “..!!
وتحتضنُنى جارتُنا:
– عقبى لك يا خليل ..!
لقد جاء مرسال من بلاد العرب أن جارتى الصغيرة لبت لزوجها العجوز رغبتَه، وسرعان ما ظهرتْ عليها بوادرَ حمل، أكدته قابلةٌ فى أحد المشافى هناك.
لم تفارق مخيلتى ليلةُ الفرن، وتستثيرنى تفاصيلها الغامضة.. أحاولُ أن أتذكرَ منها شيئاً واضحا، فتخوننى ذاكرتى الضعيفة، خاصة عندما تأتى أختى المتزوجة لزيارتنا، وتُلمح لأمى عن كيفية حدوث حمل سريع، وعن أشياءٍ أخر لا أستوعبها، فتنظر الأمُ بعينىّ قط متنمر لابنتها، فتخفض رأسها ثم تحمل رضيعَها على صدرها وتجرُ أشقاءه وشقيقاته خلفها وتذهب من بيتنا غاضبة، دموعُها على خدها.
دوىُ صراخٍ فى بيت جيراننا وبكاء ولطم، فقد جاءهم خبر وفاة العجوزِ زوج ابنتهم؛ مما استدعى سفر أبيها على الفور ليكون بجانب ابنته فى مُلمة وفاة زوجها وأبِ جنينها، ولينافح عنها طمعَ أشقاء الراحل فى ثروته الكبيرة التى تركها لأرملةٍ أجنبية ولجنينٍ لا يُعرف كنهُه بعد، فهم من سيرثون غالب التركة حتى لو وُزع ثمُنها على أرملتين ومن بعدهما سبع بنات، كانوا يتمنون على واقع سبق..!!
ثم لم تمضْ شهور معدودات، حتى كان صراخ يشبه صراخ المجانين، وجارتنا يُغمى عليها فتسقط على الأرض، ورائحة الكولونيا لا تفلح فى إفاقتها، فتسارع أمى بتخريطِ فحل من البصل تصب عليه من ماء الخل وتقربه من أنفها، فتهب المرأةُ من رقدتها مذعورة، لكنَّ ابتسامةً كبيرة على وجهها تزيدُ من استغرابِ الحاضرات، وتلح – على وعىٍ بفضولهن – ألا يغادرنّ حتى يدركن الخبر اليقين الذى تزفه إليهن جارتنا بعد نوبة من البكاء، فقد رُزقت ابنتها فى بلاد العرب بمولود ذكر، فيما بعد، أخبرت أمها أمي أن المولود سُمى على إسمى.. خليل.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى