ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة .عيد ومضى . مسابقة القصة القصيرة بقلم / فاطمة محمود سعد الله .تونس

https://www.facebook.com/fatma.malik.5458ج
فاطمة محمود سعدالله
المشاركة في المسابقة…القصة القصيرة
عيدٌ ..ومَضَى

كانتْ تجْلسُ في حديقةِ بيْتها تترشّفُ قهْوتَها المسائيّةَ على مَهَلٍ..كرْسيُّها المتحرّكُ يسْرُدُ عليْها كلَّ مرّةٍ حكايا تاريخِها السِّحْريِّ، ذاك التاريخ الزّئْلقي المتمرّد لا وجْهَ له ولا وِجْهةَ.
كانتْ تطالعُ روايةً قرأتْها أكْثر منْ مرّة ،أثارتْ في رأسها زوْبعةً،فوْضى منْ كلِّ الأنواعِ..فوْضى الألوان،فوضى الحركاتِ والقوافي والإيقاعاتِ ..فوضى الحواسِّ الصّدِئةِ..فوضى..فوضى..
” الشيخُ والبحر” حُفرتْ في ذاكرتها بإزميل نحات مبدع ” إيرنيست هيمنڤواي” ذاك الذي تعلّمتْ منه الإصرار والعناد والتحدّي ،ذاك الذي كان يوشوشُ في أذنها مع كلّ صفحةٍ تقلبها أن لا مجال لليأس ولابدّ من المحاولة تلو المحاولة حتى تحقيق المبتغى…لكنْ هل تراها نفذت الوصايا بأمانة؟؟

ابتسمتْ وهي تتذوّقُ نكهةَ ذاك التاريخ مع مذاق البنِّ ومرارته وشذا الذكريات مع أريجه..ذاك التاريخ الذي حدده هو بنفسه ليكون إعلانا لاقترانهما “إلى الأبد” ..قالها ذات فرحٍ ..سنصطاد فرْحتيْن في عيدٍ واحد يا عزيزتي : الحبّ والزواج”.
هزّتْ رأسها بعصبيّةٍ كمنْ يهشُّ طنين ذبابةٍ مزعجة ..تناولتْ رشْفةً أخرى منْ فنجان الذّكرى ،استنشقتْ من خلالها عَبَقَ “الهيل”المحمّص بوهج الشباب ونكهةِ الفرح الطافية فقّاعاتٍ خفيفةً على سطح فنجان قهْوتها الشرقيّة المميّزة.

في ذلك اليوم أعدتْ واستعدّتْ .. أعدّتْ أنواع الأكلاتِ التي يحبّها ..بدلته الأنيقة التي يتفاءلُ بارتدائها..اشترتْ ما كان ينقص زينتها كي تحسن الاحتفال من استقباله عند العودة إلى انطلاق حفلة العشاء الراقصة والذكريات العطرة.
استغربتْ قليلا أنه لم يسألها ماذا ستلبسُ هذا المساء؟ لم يخيّرها بين السهر في البيْت أو خارجه لكنها استأنستْ إلى هذا الصمت إذْ قرأتْ في سُحُبه هطولا للمفاجآتِ مدرارًا كما عوّدها…

في ذلك اليوم رأتْه واقفا أمام المرآة على أكمل استعداد للخروج ،بدْلة جديدة
ربطة عنق أنيقة تبدو مختلفة بألوانها ،لأول مرّة لم يستعن بها في اختيارها ، عطره ملأ أرجاء البيْت بل سبقة ليكتسح أرجاء الممرّ الخارجي .عيْناهُ كان يسكنُهما بريقٌ غريبٌ حرّك فيها شيءٌ يشبه الشكَّ أو الفزع من قادم مجهول لكنها سرعان ما أسكتتْ ذاك الإحساسَ واعتبرتْه وسْوسةً اسْتعاذتْ منْها. ابتسمتْ يومها وقالتْ : أنا ملكةُ هذا اليوم كما كنْتُ دائما.قلْبُه مكتظٌّ بي ،وهو مكتفٍ بأنوثتي منْ ستنافسني على عرشي الذي أتربع عليه منْذ عقديْن؟ أليستْ هذه اعترافاته التي يسكبها في أُذنيَّ قطرةً .. قطرةً ويعزفها لي نغْمةً..نغمةً، كلما حلّ هذا العيد؟

واصل مركبُ مناجاتِها يتهادى في يمّ خيالاتها الآزوردي قائلةً: سيدعوني إلى سهرة رومانسية كعادتنا في مثل هذا اليوم ..إنها ذكرانا العشرون ..كنا نحتفل بها في كلّ سنة كأنها تمرُّ بنا أول مرّة …

مَسَحَ شعره المصبوغَ حديثا والتماعةُ الرضا تداعبُ شفتيْه وتكادُ تقفزُ من عيْنيْه ،كان يدنْدنُ لحن أغنيةٍ للمطربة اسمهان ” امتى حتعرف امتى إني بحبّك امتى؟؟” خفق قلبها وردّ تْ عليه عيناهه ..أعرف يا عزيزي أعرف ..واصل صفيره بتلك الأغنية وتوجّه نحو الباب دون التفاتٍ وهو يلقي كلماتٍ متقطّعة :سأتخّر في العودة ، لا تنتظريني، صمت قليلا ثم واصل :عندي عشاء عمل.
قالت أيُعقلُ هذا؟ كيف لم تؤجّلْه؟ أنسيت عيدنا؟ . هزّ كتفيه وخرج.أغلق الباب بعصبيّةٍ غير معهودة وأغلق معه قصّةً يبدو أنهاأسدلتْ ستارهاأو أخذتْ أكثر من وقتها.

ابْتلعتْ ريقها الذي مازال مُثْقلا مرارةً لم تمْحُها السنون، كان ذاك اليوم نقطة فاصلة في سجلّ أيّامها لكنّها كلما حلّ الرّابعَ عشرَ منْ فيفري/ فبراير ،تساءلتْ بماذا كنّا نحتفل؟ أكان ذاك اليومُ تاريخا لبدايةِ زائفة أم رصاصةَ رحمة تُنهي المسرحيّة فصْلا..فصْلا؟
في ذاك اليوم ،قضتْ ليْلتها وحيدةً مع وسادته الخالية إلا جليد الظنونِ يجمّدُ دماءها ومنْ أشواك الحسرة تخزها كلما حاولتْ أن تغفُوَ.
أما هو فقد اسْتيقظ بيْن مخداتِ الساتان والأغطية الناعمة في أحد الفنادق بعْد ليلة قضاها طمعا في تجديد الشباب مع غادة ـ سبحان من صوّرّ ـ قدٌّ أهْيفُ شقْرةٌ كثيرا ما تحسّر على ندرتها بيْن العربيّاتِ و عيْنان اسْتعارتا من البحر والسماء مزيجا يترقْرقُ بغنجٍ كلّما رنتْ إليْه بدلالٍ ..اسْتيقظ ليجد نفْسه وحيدا ، ناداها لم تجبْ ..فراغٌ يملأ الغرفة..قفز يتفقّد أوراقه وحافظة نقوده ،كلّ شيء في مكانه .اطمأنّ رغْم حيرته .وبينما كان يلملم نفسه المبعثرة من هذا التصرّف الغريب لمح ورقة موضوعة على منضدةِ الهاتف..التقطها بلهفة ،قد تكون تركت له عنوانها أو رقم هاتفها ليضرب معها موعداً جديدا يسْتزيدُها إمتاعًا وشبابًا ..قدْ..قدْ
التهم الأسطر ، لم يصدّق ما تراقص أمام عيْنيْه ” صباح الخير ،سيدا ” ابنةُ اسرائيل تقرئك الوداع..لن يطول بك الانتظار ،ستلتحق بأمثالك من الراكظين وراء المتعة الحرام…أنا سفيرةُ الأيدز أرسمُ لك النهاية…

لم تنسَ كيْف عاد إليْها مكسورًا ،منحنيًا..
لم تنسَ دموعَ الرّعْب والندم والتوسُّل ..لم تنسَ الذلَّ الذي كان يقطرُ مع كلّ حرفٍ وهو يسردُ عليها تفاصيل الخدعة التي وقع في فخّها… استسمحها..توسّل إليْها كي تقبل اعتذاره..لم تسامحه.
لم تسامحه.. لكنّها لم تتركه حتى آخر لحظة لفظ فيها أنفاسة ولا تدري أشفقةً أم حبا أم كانتْ تريدُ أنْ تقول له: ها أنذا ،ضميرك الذي سيجلدك في كلّ حين ؟ ،،أحبّك،، آخر بوْحٍ تلفّظ به قبل أن يسكت إلى الأبد..لم تصدقْه …لكنّها اسْتمْتعتْ وهو يقولها كخاتمة لمسيرته وقصته معها.
رحل من كان رفيقا لدربها مكروها، مرفوضا ..أخذ كل شيء معه حتّى قدميْها كيف تودّعُ جثمانه وهو يغادر البيْت في ثابوته الخشبيّ ولم تُشلَّ ركبتاها كآخر عطاء تتكرّمُ به عليْه؟ في حين أنّه لم يترك لها سوى هذا الكرسيّ المتحرّك و ميراثا ثقيلا من الذكرياتِ القاسية .
وبدون ملل .. كانتْ تجلسُ وحيدةً تواصلُ ارتشافَ الذكريات كلّ مساء في حديقة بيْتها النائي يهزّها كرسيُّها المتحرّكُ بهدوءٍ وترجُّها دوّامةُ الذكرياتِ.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى