ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة . لعنة القرفصاء .مسابقة القصة القصيرة بقلم / حسام عيسى رمضان . فلسطين

حسام عيسى رمضان

فلسطيني ألماني

00491773240385

 

 

لعنة القرفصاء

 

 

رائعةٌ تلك الصور التي زينت جدران صالون بيتي، لكن أجملها كانت تلك التي تبدو باللونين الأبيض والأسود، ومع الوقت أخذت تميل إلى اللون الرمادي الفاتح. ورغم بساطتها، وقسوة لحظة الالتقاط، وحقارة شخصياتها، إلا أنها ستبقي أغلى ما أملك. 

فيها نصطفُّ نحن الأربعة، أنا، عباس، اسماعيل، وعبد الفتاح, كلٌّ يتكئ برأسه على رأس الآخر، هناك .. في طرف الزاوية اليمنى؛ يظهر خنصر حسين المصور، وبنصره، ليخفيا أذن إسماعيل، ويقصّا شعر عباس؛ ليبدو أصلعاً أجرداً.

ظهر عباسُ مضحكاً، بعد أن اخفت أصابع حسين أجمل ما يملك. أما إسماعيل فكنتُ لا أرى أعلى جمجمته في تلك اللقطة، فقد حاول حسين كثيراً أن يلتقطها؛ لترضي الصورة كل من فيها، مستثنياً من ذلك عبد الفتاح المسكين. فإسماعيل الذي يتجاوز المترين؛ حاول أن يثني ركبتيه، حتى يتسنى لحسين أن يأتي بكامل جسمه، لكن منظره المضحك جعله يرفض الاحتفاظ  بالصورة، لا سيما بعد قهقهاتنا المدوية. رفض حسين  في البدايةً أن يمسحها، لكنه فعل بعد سماع تهديدات اسماعيل: إن لم تمسح تلك الصورة يا ابن الحرام فبيت النار ملئ ولا ينقصه سوى ضغطة زناد. 

أما عبد الفتاح، صاحب المؤخرة المتفجرة فقد ألح عليه حسين أن يشاركنا الصورة، فرفض، غير ان حسين أقنعه بخبث أنه سيلتقط الصورة بطريقة حرفية تظهر مؤخرته رشيقة ..

لكن الصورة جعلت قطعة الشحم أكثر فجاجةً، لم يصدر من عبد الفتاح أي رد فعلٍ غاضب، بل غاب في ضحكةٍ ماجنة.

أما سروالي العسكري الزيتي في الحقيقة، والأسودُ كما يظهر في الصورة؛ فقد كان يحزم أسفل كرشي المتضخم، في الصورة أشده للأعلى خوفاً من أن يخدعني فينزل وينكشف لباسي الداخلي النسائي المضحك، الذي أجبرني على ارتدائه درجة حرارة تلك المنطقة.

حاولت أن أنسى تلك الصورة وأشغل نفسي برواية السلم والحرب .. صنعت كأساً من النسكافيه وجلستُ على كرسيٍّ مطلقاً ساقيّ للريح، شغَلت صندوق الغناء على أغنية سهروني عينيك، وفتحت الكتاب، وثبَت نظارتي الطبية جيداً وراء أذنيَّ، ولملمت جثتي جيداً، وما أن بدأت القراءة, حتى أيقظت الكلمات ذاكرتي، ورحت أحدق مجدداً في الصورة، فوقعت عينيّ على ذلك المنظار الذي يتدلى على صدري، مربوطاً بحبل عسكريٍ ما زلت أحتفظ به، ولا أعلم أي دناءة جعلتني أسرقه, ربما سرقته لصغر حجمه, أو لتلاحقني لعنة تلك العجوز البعيدة الباقية في عدستي المنظار المتشبثتين فيه. 

حاولت مراراً أن ألقي بالحبل في سلة المهملات، إلا أن شيئا ما كان يمنعني، حتى وإن كان الحبل هو سبب وحدتي التي أعيشها الآن، فتعلقي به جعلني أهمل زوجتي، كنت أمسكه بين يديّ، وأحدق به لساعات كل يوم، حتى جاء يوم دخلت عليها المطبخ ووجدتها تشعل النار وتحرق الحبل، فاندفعت اتجاهها، وانتزعت منها الحبل، وثرت لصراخها المتواصل فطلقتها، وطردتها من المنزل. والحقيقة أنني حاولت مراراً أن أرجعها لكنها رفضت بعد أن شعرت أن حبلا قد استحوذ عليّ.

 

تناولت منظاري من على المقعد، حيث كنت أجلس بذات الطريقة التي تسمح للهواء أن يدخل إلى أسفلي ويجعلني أضحك وأشحن نفسي بالسعادة قبل أن يبدأ عجاج المسافرين بتعكير الجو. كانت الساعة الخامسة فجراً، حيث اصطفت السيارات كثعبان لا أستطيع أن أرى نهاية ذيله, وبعد ساعة سيسمح للمسافرين بالتقدم ويبدأ رأس الأفعى بالتحرك. في تلك الأثناء، كنت على موعدٍ مع إطلاق النار اتجاه أي حركة. كان منظاري يتنقل بين السيارات. لم يتحرك أحدٌ من مكانه،  كلٌ ملتزم بمقعده, فلا أحدٌ منهم يتوق أن يحتضن رصاصةً.

فجأة، فُتح باب إحدى المركبات، وترجلت منها عجوزٌ قديمةٌ، تحمل في يدها زجاجة، تتبعها امرأة شابة تحاول مساعدتها. لم أتبع تعليمات طلاق النار، بل راقبت الشيء الذي تنويان القيام به. غابتا كلتاهما بين الأشجار فرحت أضيئ الليل بمصباح كهربائي ذي مدى طويلٍ. وأمسك شعاع مصباحي بهما مرةً أخرى.

استطاعت العجوز أن تسير بين تلك الصخور والأشواك معتمدةً على ذراع تلك التي تصحبها، أمر طارئ  أجبرها على مغادرة المركبة، غير مكترثةٍ لأوامر منع التجوال.

استمرتا بالسير، وبعد عدةٍ أمتار توقفت العجوز، ورفعت ثوبها وجلست القرفصاء. وما كان من المرأة الأخرى إلا أن استدارت وراحت تركض ضاحكة عائدة للمركبة.

رأيت شيئا لم أره في حياتي، آآآخ من مؤخرتك يا عبد الفتاح. وبأعلى صوتي ووقاحتي وصفاقتي وطيش شبابي ناديت: عبد الفتاح، إسماعيل، عباس، حسين، استيقظوا، أحضروا مصابيحكم، واجلبوا معكم مناظيركم. بسرعة!

ظنَّ كل منهم في البداية أنه هجوم قد تعرض له المعسكر، فرأوا أن سحاب بنطالي ما يزال مشرع للريح، فعرفوا وقتها أن لا خطر يحوم في الأفق. تناول مني عباس المنظار، وما أن رأى تلك العجوز تلبي نداء الطبيعة، إلا وانفجر ضاحكاً وسقط أرضا، أما حسين فلم أسمع ضحكته إلا بعد أكثر من عشرين ثانية، فكان صوت ضحكه مدفون من شدة الموقف. وحمل كاميرته وبدأ يلتقط لها الصور كمن رأى نصباً تذكارياً أو واحدةً من عجائب الدنيا السبع.

إسماعيل لم يضحك بل  صرخ : “قومي يا حجة، يا ريتك عملتيها بين العربيات كانت سترت عليكِ.وغشي ضاحكاً.

 أما عبد الفتاح، فوقف كالأبله يتمعن فيما يراه، ويقول أنه أعتقد أن ما عنده أذمَّ ما تم خلقه. لكن الآن فقد اطمأنت مؤخرته أنها ليست الأبشع على الإطلاق، وبينما جلس يراقب تلك العجوز بصمت قاتل، بدأ بنطاله يُشق، وشحم مؤخرته يظهر للعلن، ولكنه لم يبدِ أي اهتمام لما يحدث معه على غير عادة. 

وفي ذلك الهرج والمرج والضحك الجنوني، وعلى حين غرة، نظرت العجوز نحو الضوء، وتنبهت أن أحدهم يراقبها، فلم تكمل ما بدأت، وراحت تجري كمن أُحييّ به عمر الشباب، ثم أخذت تختبئ بين هذا الغصن وذاك، وهذا الجذع وذاك، إلى أن وصلت المركبة ودست نفسها بين الركاب علها تتوهنا عنها وقت التفتيش.

بعد لحظات ألقى أحدهم أوامره لرأس الأفعى فبدأ بالتقدم نحونا الهوينا، وبدأنا نبحث عن العجوز بين المسافرين إلى أن وجدناها ووقعنا خمستنا مغشيين من الضحك الهستيري الذي أصابنا، وهي تدفن رأسها بين ركبتيها وصوت نحيبها يرتفع شيئا فشيئا.

 

فجأة شعرت بأن سروالي بدأ يتبلل، ورأيت بقعة ماء تتسع حول الزَّمام المنزلق، تناولت عكازي المتكئ على طرف الكرسي الخشبي بجانبي، وما أن وقفت، حتى انفتح الصنبور لا إرادياً، ورأيت سائلي يتسرب خلال بنطالي إلى الأرض، وبدأت أسرع تجاه المرحاض، ولعنة العجوز تشدني إلى الخلف، حتى سقطت غارقاً في بولي.

نهضت، وبعكازاتي رحت أحطم الصورة، وبقدمي أدوس مؤخرة عبد الفتاح، وبلعابي أبصق في وجه عباس، وبيدي أمزق جسد إسماعيل فيهوي قزماً حقيراً أمامي. وأخرجت ذلك الحبل من صندوقي الخشبي، صعدت على كرسي خشبي، وربطت الحبل في حلقة حديدية صممت

لمروحة سقفٍ لم تصل بعد، لففت ما تبقى منه حول عنقي، أزحت بقدمي الكرسي من تحتي، فشد الحبل نفسه حول عنقي، لكنه لم يحتمل سفاهتي، وثقل جسدي، وانطرحت أرضاً؛ أرى صورة وجهي المتهالك تنعكس على سطح بولي.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى