ط
مسابقة القصة القصيرة

لوحة الصبر .مسابقة القصة القصيرة بقلم / إيهاب بديوى من مصر

إيهاب بديوي
مصر
مسابقة القصة القصيرة 2017
…………………………………..
لوحة الصبر
………..
سعد شمشون جدا بالدعوة التي تلقاها من الدكتور سليم أستاذ الفنون لحضور حفل توزيع جوائز المركز الفني السنوية، يعرف خلفيته من زاوية في شارع رئيسي في وسط البلد يعرض فيها لوحاته كل أسبوع في يوم الإجازة ويجلس معه أحيانا لتناول الشاي، وقد يشتري منه لوحة تعجبه، هو يفعلها دائما كلما اشتكى له من عدم مقدرته على شراء أدوات ومواد الرسم الزيتي الذي يعشقه ويتقنه، وكان يسعد كثيرا حين يناديه: فان جوخ.. رغم مرارة المقارنة إلا أنه كان دائما يتمنى أن ينال شهرته، ولهذا كان يوقع لوحاته بأول حروف اسمه، يعيش على مداد أمل أن تنجح إحدى لوحاته في كسر الحواجز الفولاذية بين الطبقات..
احتار ماذا يرتدي؟! ليس عنده سوى ملابس العمل التي يتسلمها كل فترة لتناسب عمله كجامع للقمامة، وملابس للمناسبات الهامة لكنها لن تتناسب مع قيمة ومكان ذلك الحفل الفاخر الذي يحضره كبار الفنانين والمدعوين، اضطر إلى تأجير بدلة خاصة والذهاب إلى حلاق أرقى قليلا.
لم يعرف نفسه، ذهل أبناؤه وضحكت زوجته حتى ظهر الفراغ في فمها من كثرة الأسنان المفقودة:
– تظن نفسك ذلك المجنون بيكاسو.
– أخيرا نطقت اسمه بصورة صحيحة.
لاحقته بالتقريع المعتاد كلما أنفق مالا على فنه الخاص، رغم أنه يتكسب أحيانا منه مبالغ قليلة، لم يبال، تذكر كلمات الدكتور سليم التي تؤكد عليه وجوب الإندماج قليلا في الوسط الفني لعل فرصة شاردة تكون من نصيبه فيوافق مسئول ما على عرض أعماله في صالة محترمة.
نزل منتشيا، يقترب بخطى واثقة من درب أحلام لم تفلح شعيرات رأسه البيضاء ولا يده الخشنة في إبعاده عنه..
وصل إلى المقر الفاخر ودخل بعد أن سأل عن الدكتور، رغم أنها أفخر ثياب يرتديها في حياته، وأكثر قيمة حتى من بدلة الزفاف، إلا أنها فاضحة تماما، تبدو كسيارة قديمة متهالكة تقف بجوار سيارات فاخرة حديثة، ابتسم من المفارقة وقرر تجسيدها في لوحة سيسميها من أسفل، من أعلى.
التقى الدكتور سليم أخيرا، كان في صحبة الوزير وأجانب وسيدات يلمعن في الظلام، رحب به وقدمه على أنه فنان وجودي تجريدي. ابتسم، هذه مقدمة ضرورية حتى لا يعلق أحد على مظهره، لكنه فوجئ بإعجاب من الحاضرين والتفاف الفتيات حوله وسؤال ملح إن كان يسمح لهن برسمهن في مرسمه، ضحك حتى ظهرت مملكة السوس القابعة في معظم أسنانه، أخذه الدكتور سليم إلى ركن خلفي في المعرض المصاحب للإحتفالية، أذهله ما رأى، إحدى لوحاته تتوسط حائطا كاملا، بحث عن اسمه تحتها كما يحدث في كل المعروضات، لم يجده، انقبض قلبه، قبل أن يسأل عاجله سليم:
– لا تقلق يا صديقي، أنا لم أسرقها منك، أنت نكرة لا يعرفك أحد، ولا يمكن أن يقبل أي مسئول أن يعرض أعمالك، لذلك قدمتها هنا على أنها لوحة وصلتني من مجهول.
– فنان حقيقي ذلك المجهول.
– وليزيد تعجبك، هذه اللوحة حصلت على جائزة العام الثالثة.
ذهل شمشون، نظر إلى سليم طويلا ثم تفجرت الدموع من عينيه وأسرع يقبل يده.
تراجع سليم خطوتين للخلف وأمسكه من كتفيه:
– يا صديقي الجهلاء والمدعون والواهمون يصنعون زحاما فوضويا في مقدمة الصفوف، الموهوب الحقيقي في كل الفنون شديد الحساسية. لا يزاحم أبدا ولا يحارب من أجل إيصال رسالته، قليلون جدا من كانت عندهم تلك الروح القتالية، لا يحتملون كلمة جارحة تمس موهبتهم، هم مثل الجواهر النادرة تحتاج من ينقب عنها، وأنت تستحق.
– لا أعرف ماذا أقول لك، ولا أريد شيئا، لقد وهبتني الحياة من جديد.
– للأسف هذا المعرض ليس له جوائز مادية، ولكن الأعمال الخمسة الأولى تأهلت مباشرة للمشاركة في أكبر معرض بالعالم في إيطاليا في منتصف العام القادم، وعندي أمل أن تفوز بإحدى الجوائز المتقدمة وربما يشتريها أحد أثرياء العالم.
– وكأنني في حلم، ماالذي تقوله يا دكتور!! معقول.
– الفنان الحقيقي يا صديقي من الممكن أن تتغير حياته في لحظة التماس بين الحلم والحقيقة، كما قلت لك، الجوهرة الغالية تنتظر فقط الإكتشاف.
بقدر ما كان محلقا في عالم خيالي. بقدر ما جرحه أن تنسب اللوحة لمجهول حين توزيع الجوائز. سمع همهمات من حوله حين استلم الدكتور سليم الجائزة أنه هو من رسمها ولكن منصبه في الجامعة والحكومة يمنعه من ذكر أنها لوحته. نزف قلبه أكثر والتهاني تنهال على الدكتور سليم من صفوة المجتمع وسمع بأذنه أحد كبار الفنانين والذي ترأس لجنة التحكيم يقول أن لوحة الصبر كانت تستحق المركز الأول بجدارة ولكن عدم ذكر اسم من رسمها هو السبب في تأخرها.
انتهت الليلة الخيالية وعاد إلى الواقع مع توصية من الدكتور سليم له بألا يقول لأحد أن اللوحة لوحته حتى لا تفقد فرصتها في المنافسة، ووعده أن يصطحبه معه في موعد المعرض لأن الوضع مختلف تماما في الخارج وسيستقبلونه بود وترحاب.
عاش الحلم طوال الأشهر التالية، استقطع من قوت يومه حتى يجمع تكلفة جواز السفر ثم سلمه للدكتور، توقف عن عرض ما يرسمه في زاويته الخاصة في نهاية كل أسبوع، خفف من علاقاته بمن حوله، هيأ نفسه تماما للنقلة المنتظرة…
قبل السفر بأسبوعين ذهب إلى فيللا الدكتور سليم للاتفاق على الخطوات الأخيرة، قلبه القلق لم يتوقف عن النبض طوال تلك الفترة. سيحدث شيء ما، وقع عليه الخبر كالصاعقة..
توفي الدكتور نتيجة أزمة قلبية مفاجئة، جلس على ركبتيه وظل يضرب على رأسه، ظنوا من مظهره أنه كان يتلقى صدقة من الدكتور، سارع أحدهم بإعطائه بعض المال طالبا أن يدعو له بالرحمة..
نظر له طويلا، ثم ألقى بالمال على الأرض وترك المكان، سار هائما على وجهه لا يعرف ماذا يفعل، دخل بيته مهزوما.
ذهب بعد العزاء ليستعيد جواز سفره، وجد التأشيرة عليه، هو عامل نظافة في خانة العمل، ومعها ورقة صغيرة أنه خادم الدكتور، فهم ما حدث، لكن لا يهم، يذهب معه كخادمه ويعود كفنان عظيم. ذهب إلى السفارة يسأل عن كيفية السفر، أخبروه أن التأشيرة مشروطة بسفر الدكتور سليم، وبالتالي تلغى تلقائيا لوفاته، ضحك حتى البكاء، كان يريد منهم أن يساعدوه على السفر فقتلوا حلمه تماما.
تابع أخبار المعرض عبر الإنترنت، شاهد لوحته تزين مجلة المعرض، طعنته من جديد كلمات التعريف.. لوحة الصبر. فنان مجهول. الدكتور سليم….
– سينسبونها للدكتور إذن. من يعرف الفنان المجهول؟
انتظر بلهفة يوم إعلان الجوائز، تابعه من جهاز الحاسب في بيت أحد معارفه، حصلت لوحة الصبر على المركز الرابع وجائزة عشرون ألف دولار..
فتح فاه، هذا المبلغ يساوي راتبه في أربعين عاما، قفز في مكانه من الفرحة، تابع. وقد اشتراها محب للفنون بمائة ألف أخرى. نسبت إلى الدكتور سليم. سقط مغشيا عليه..
طرد من فيللا الدكتور شر طردة حين ادعى أنه صاحب اللوحة، لم يسمح له أحد بدخول مكاتب المركز الفني الكبير، تحين يوم تكريم اسم الدكتور واحتفالية بفوز اللوحة الأول في تاريخ الوطن، أصابه الجنون حين رأى أعماله التي كان الدكتور قد اشتراها تعرض وتنسب له بعد موته.
صاح في وسط الاحتفالية:
– أنا صاحب اللوحة، بل صاحب كل تلك اللوحات، عليها جميعا توقيعي.
التفت له الحضور، ثار أبناء الدكتور وزوجته، حضرت الشرطة فحملته إلى القسم القريب، أوصت النيابة بتحويله إلى مستشفى الأمراض العقلية، كان التشخيص النهائي:
– متلازمة لوحة الصبر.
………
إيهاب بديوي

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى