ط
مسابقة القصة القصيرة

ماتبقى من العمر . مسابقة القصة القصيرة بقلم / سعيد نجاع من الجزائر

الاسم :سعد
اللقب:نجاع
تاريخ ومكان الازدياد:1981/08/08 ببريكة .
البلد :الجزائر
البريد الالكتروني :[email protected]
نوع المشاركة :قصة قصيرة
**ماتبقى من العمر **
…كان الليل قد أسدل ستاره لِيرسم أحلامه للذين يؤمنون بالأوهام ،..يسأل نفسه بعدما نزلت دمعة ساخنة من مُقلته التي إحمرت وهو يفركها يبحث عن إبتسامة تنسيه حزنه الذي بات ظاهرا لزوجته :ماذنب هذه المسكينة التي أفنت معي عمرها الوردي؟،وماذنبي إن تعلقت بهذه الأمسية التي لم أعشها من قبل، …آه كاد تزييف الحقائق يقتلني ،لم أعهد نفسي هكذا… كلُّ في مكانه زوجتي في مكانها ،وتلك ال…. /يصمت هنيهة، تلك الحروف الدافئة التي باتت تعانقني في ليالٍ باردة هل يعقل أن أتجاهل نغمتها بهذه السهولة… لا…لايمكن لقد باتت جزءا مني، من بيتي الصغير …يسأل نفسه:هل تُصنع السفن من الورق أم من الخشب؟… قالها وهو يتمتم بعبارات ظنها غير مفهومة… لكن سرعان ما أمسكت زوجته بيده وهي تقول:لا يهمك يا عزيزي من ورق أو من خشب… نحن البحر الذي يُنير ظلماته حضورك،البحر الذي يأتيك بثياب النوم دائما، لا نحتاج منك زياً رسميا، نريدك كما أنت، نحن عائلتك، نحن كل شيئ بالنسبة لك ولنا… دعك منها… لا تكسر خاطرك بها حاول أن تنساها، مجرد تفكيرك بها أفقدنا لذة الجلوس معك… مدّ يده وهو يداعب شعر إبنته النائمة التي لم تره طوال اليوم… لقد شعر بإجحافه في حقهن… شعر بالإساءة والتذلل… شعر بجداره الهش يتساقط أمام أوهامه العزباء… لم يرى أوهاما عزباء كأوهامه من قبل… آه لقد كان تفكيره بها يمنحه نوعا من الشراسة… الشراسة التي تبعده عن عائلته الصغيرة ،لقد كان ضحية ليل بارد لم يجد مايكفيه من حطب ليستطيع الإمساك بقلمه والكتابة على ناصية زوجته الوفية برماد أسود ينبثق من قلبه الضعيف… أو ضحية عالم أزرق يحصد من الكلمات رؤوسها اليانعة ،ويصطاد من الرجال من قُطعت سُرّتُه في ظلام دامس ببيت ترابي قديم .،لأنه لم يعهد كل هذه الأضواء التي باتت تلاحقه وبنغمات مختلفة…هو ذلك القروي، الجبلي، الأصيل الذي أغوته أزرار التكنولوجيا…
كانت هاته ليلته الأولى في التفكير بها، وكانت تلك هي زوجته التي باتت تترقب تمتماته وهي ترميه في متاهات الشوق لتحدث في نفسيته الضعيفة صوت إرتطام الأرض بالسماء…لقد نام بعد تعب في التفكير وقد أسندت زوجته ذراعها إلى رأسه الساخن بالأفكار السخيفة وهي تردد… نني… نني …يا بشّة…نام وهو يستندها كقط وديع بعدما مدّ أرجله الباردة ليملأها دفئا من حضن تلك البراءة النائمة محاولا طلب الصفح عن تقصيره الجلي…لقد غطّ في نومه العميق بعدما نال منه الأرق، لينهض في الصباح الباكر كعادته متوجها لمكتبه يبحث عن ضوء جديد، عن قصة مماثلة، عن وهم مزيف….لكن لقاءه بها في أحد الشوارع كان كافيا ليعيد إليه سيناريو ليلة البارحة… حدث كل هذا قبل ولوجه لمكتبه ،لكنه كان سريع الخطى كمن يدفع البلاء بصدقة… دخل المكتب ألقى تحيته على الكاتبة وجلس في زاويته العابسة بالأفكار المشوشة، آه لقد تذكر شيئا مهماً ،إنتفض من مكانه حمل محفظته وخرج….
لقد نسي المرور على صديقه صاحب المقهى العتيق *حمزة*،الزميل الذي لازمه مقاعد الدراسة يوما ما، ليرتشف فنجان قهوة محمص كعادته ويمضغ بعضا من أطراف الحديث وهو يسترجع ما فات من العمر، كما أنه نسي ذلك المجنون الذي يلازم زاوية المقهى كل صباح وهو يمد يده متسولا جيوب الوافدين للمقهى… هذا هو حال “سعيد” كاتب المدينة المشهور بمراسلاته الخارجية والتي لاتعود لزبونه إلا بنتيجة و لم يخامره شك يوما ما في فشل مراسلاته فهو لا يجالس غير كبار السن من المتقاعدين وأرامل الشهداء، لكن هذه المرة عادت به تلك الفتاة الشابة لأول سنين العمر حتى لا أقول سنين الجمر، ظلّ يحدِّق في المارّة فاتحا فمه ودواخله تناجد حنينا مفقودا صادفه هذا الصباح في احدى شوارع المدينة،… يرن هاتف “سعيد” يخرجه من جيبه فيجد زوجته تطلبه… يااااه لقد أحست حتى بتفكيري ،ينظر للهاتف ملياً ثم يضعه في جيبه دون رد، كيف يقنعها بأنه كان مشغولا بغير ذلك،… لكنه سرعان ما عاد لتفكيره بتلك الفتاة… يضربه حمزة إلى كتفه وهو يقول :لم أعهدك مهموما هكذا يا سعيد، مابك؟ أخبرني ربما أستطيع مساعدتك، …لكن سعيد كان يُقَلِب بصره بين الوجوه الموجودة في المقهى وهو ينتف ماتبقى من سيجارته، ويبصق تارة أخرى وهو يعاينهم باهتمام… لاجديد في حياته غيرها ،فكل الوجوه مألوفة لديه… يسرح برهة بتفكيره ثم يعود ليجيب صديقه *حمزة*،لا أريد أن أقحمك فيماتبقى لي من العمر ياصديقي فهموم الهاربين من سداد مشروباتك تكفيك، ثم إنتفض من مكانه وإذ بأحد زبائنه يقف عنده فيبتسم “سعيد” إبتسامة إفتقدها ليوم كامل وليلة”أهلا بالحاج الحواس، كنت قادما للمكتب، أعرف أنك كنت تنتظرني، خذ برقيتك ياالحاج قد أعددتها لك أمس ومد يده وأخرجها من محفظته، ثم انصرف لمكتبه…وبأعصاب متوترة ونفس قلقة وتوتر وخوف، شعر بدوار شديد وقد رمى بنفسه على كرسي مكتبه كمن ألقى بجثة على قارعة الطريق مقطع الأوصال، يشعر بحدوث عاهة مستديمة تلازمه تفكيره وتبعده عن تلك العائلة السعيدة الصغيرة،فيجد نفسه بلا أسرة يداعب من جديد فتاةً جميلة جدا ماحقّ عليها أن تشاركه يومياته،… فجأة تدخل سكرتيرته وتخبره بأن زوجته تطلبه… وقف وبسرور عصبي، سرور من نجا من شرود كاد يُغمى عليه منه …ثم جلس وأخذ نفسا عميق كمن أخرج عقابيل خوف لا زالت ناشبة في صدره…إنه يدفع وبقوة صورة تلك الشابة المغرمة به وهو لايعلم من ذلك الأمر شيئا سوى أنه لا يخلد للراحة إلا في الهزيع الأخير من الليل تفكيرا بها….ثم صاح تفضلي يا زوجتي العزيزة وهو يتمتم “ربي يجيب الخير برك….
دخلت زوجته وبخطى متثاقلة وكأنها أول مرة تزوره، جلست على تلك الأريكة الكبيرة ثم إسترسلت قائلة:مابك ياسعيد؟.. ولم تتم حديثها حتى خنقتها العبرات، ولكنها تداركت عواطفها، ثم قالت بلهجة لا تدل على ذات نفسها… مابك تركتنا اليوم بدون “مصروف”..لم نعهدك هكذا يا سعيد، ذهبت إبنتك للمدرسة وهي تردد”لماذا لم يترك لي أبي دريهمات كالعادة يا أمي”..،كما أنك نسيت ساعتك وربطة عنقك،… ساد صمت رهيب مكتب “سعيد”ثم قال بصوت متهدج مرتعش”لا أعرف شيئا مما يدور حولي يا زوجتي فجأة صرت أبحث عن نفسي بينكم ولم أجدها، شعرت بأنني أرحل منكم يوما بعد يوم، لكنني أعدك أن أكون كما عهدتيني، هي فترة عصيبة وتمر وهذا حالنا مع الدنيا، لكنني مخطئ حين تركتكم دون “عولة”…ناولته ساعته وربطة عنقه، وأخذت من عنده ماتقضي به حاجياتها وانصرفت دون زيادة في الكلام لأن له مهابة في نفسها تمنعها من مشافهته بما يخالف رأيه ،فلاذت بصمت خانق تتفادى كلامه الذي لم يقنعها البتّة….
تنهد سعيد تنهيدة طويلة لامس ريحها سقف مكتبه ،وعبارات اللوم التي تركتها زوجته تطوف في الأفق محدثة غصّة ألم في صدره وهو بين البينين… ولم يكن يعلم من مشاعر تلك الفتاة إتجاهه شيئا ،إلا أنها أخذت كل تفكيره …ثم يسترسل وبإنفعال شديد قائلا بينه وبين نفسه :إن الخيانة قبيحة جداً، وهذه الفتاة سبب إنتكاسي وكارثتي لولاها لما زارتني زوجتي اليوم مبكرة، ولولاها لكنت قبلت إبنتي كالعادة… ألا لعنة الله على أحاسيسي الضعيفة التي تستهويها أبسط الأشياء… ثم يتفطن لمايقول: لا، ليست شيئا بسيطا تلك الرائعة الجميلة ،لكن مابالها بمشرف على الكهولة مثلي، لكنني أرى أن تعلقي بها هيأ لي عمرا جديداً…ثم إستوى في جلوسه وقام من مكانه لقد حان منتصف النهار، خرج من مكتبه بعدما إبتاع بعض اللوازم الثانوية وعاد للبيت ظهرا ليحتضن تلك البريئة الصغيرة التي طالما كان يقبلها كل صباح،.. عاد لزوجته التي كانت تنثر ملابسه فهذا تغسله وهذا تكويه، بعدما حضّرت له سُفرة بما تشتهيه نفسه، كان ينظر لزوجته وهي تتنقل بين الغرف تجرُّ إخلاصها ووفائها لبيتها ولزوجها “سعيد” خاصة..
بعدما أخذ سعيد قسطا من الراحة قرر الذهاب لمكتبه بعد تلك القيلولة التي داعب فيها إبنته الصغيرة، لكنه أحس بألم شديد في بطنه ووجب عليه التوجه لمصلحة الإستعجالات ليأخذ فحصا أوليا، وحال وصوله وجد طابوراً طويلا للمرضى الذين ينتظرون دورهم، لكنه سرعان مالمح من قلبت حياته رأسا على عقب، إلا أن سعيد كان رجلا وسيما ومظهره يعكس سِنّه، لقد حان دوره لييتجاذب معها أطراف الحديث وينهي ما آلت إليه يومياته لأنه لم يعد بينه وبينها سوى كلمة ولو كانت رجاءا لمايعانيه من كبت لعشقها المدفون بين دواخله… هاهو سعيد يقترب منها ويسألها: هل يمكن للطبيب أن يشفي حظي العاثر؟… هل نجد من نبحث عنهم في كل مكان؟ لماذا يشبهكم كل شيئ في المدينة؟ أهذا حظنا العاثر؟ لماذا ظهرتم في آخر ماتبقى من أعمارنا؟….، كانت تنظر إليه نظرة العاشقة الولهانة التي أحيا بداخلها ما كبّدَتهُ السنين، كانت تبتسم عند كل سؤال يسأله… لأنها كانت تحبه ولا تستطيع إخفاء شيئ إنتظرته من سنين ووجهها يشع نورا ،كيف لسعيد أن يتقي الشقاء المقدر مادام يبدو في حُلّة مشرقة وألوان ناضرة ،في داخله لذّة دفينة غامضة لا تكاد تفصح عن ذاتها كلما تذكر زوجته وابنته، وكلما حضرت هذه الجميلة التي تدعى “سلمى” نسي تلك التي طالما كانت وفية ومخلصة له …
جاء دور “سلمى ” للفحص ودخولها عند الطبيب لكن سعيد ظل واقغا محدقا بها بعدما زال ألمه وانشرح صدره وفُتِحَت له شهية الحديث بابتسامة منها… جلس مكانها يتحسس دفئ مجلسها ويرتب أفكاره لما بعد الفحص، ….ترى كيف تحدثها نفسها عني؟.. مبتسمة هي.،أتهزأ بي؟.. أم أنها تضحك عن عمري الذي شارف الكهولة؟ …لقد رتب لها الكثير من الأسئلة ولا تهمه الإجابات فهو لا يعرف عنها شيئا، لكنها كانت تعرف عنه الكثير وتبادله أكثر مما يتصور …
دقّ جرس الطبيب فوقف سعيد وقفة إستعداد بُهِت لها الحضور، كمرابط يحرس وطنه، وخرجت سلمى مبتسمة فاستقبلها سعيد مبديا عن ابتسامة عريضة وهو يقول:مساء الخير يا وطني…
كان يلهث وقلبه يرفرف بسرعة وبضعف ،وعيناه غائرتان يتبعان خطوات سلمى، حتى ابتسامتها كانت كأغنية عاشقة مُلتاعة ،دنا منها سعيد وهو يقول :أكاد أموت يا سلمى، لكن لا يهمني الألم الذي كان في أحشائي بقدر مايهمني رأيك في هذا الكهل المجنون، فتسارعت دقات قلبها ورفعت عينيها إليه، كانت الإبتسامة الواثقة تتماوج فوق ثغره كما تتماوج ربطة عنقه ،كان شوقه يدفعه وهو يحاول احتوائها بين ذراعيه من فيض مايحمله لها من حب ، لكن سعيد رجل معروف في المدينة ولا يستطيع فعل شيئ كهذا ،وان لم يكن بينهما في ما مضى حب ماضٍ عميق الجذور ،الا أن سلمى تقف مستسلمة هادئة كحمامة واجهتها الأضواء ليلا فأبدت سكونها وعدم حراكها لما يحتويه المشهد من شاعرية تتلاطم ليزخر بها وجهها الحسين …مدت سلمى يدها بهدوء لمحفظتها لتنثر ماتبقى لها من مشاعر اتجاه سعيد في كتاب تحت عنوان “أنت لي”،…ولأنها تعرف جيدا حب سعيد للمطالعة والكتابة ،فقد كان ذلك الكتاب كافيا حين وقعت عينا سعيد على عنوانه وهو يفرك يديه في سعادة متمنيا دوام تلك اللحظة للأبد ،لكن سرعان مارحلت سلمى ولم تمنحه حتى حق الرد وتركته واقفا مشدود النظرات كمتثال لا يستطيع حراكا،نظر إلى الكتاب وابتسم ثم انصرف إلى مكتبه ….
دخل سعيد مسرعا للمكتب كمن يبحث عن شيى ضاع منه منذ سنين وهو يقلب أوراق الكتاب متلهفا كالمجنون ،إنه يبحث عن أمل أخذته معها تلك الشابة الجميلة سلمى….وفجأة سقطت عيناه على بضع أسطر مكتوبة بخط اليد كانت لرسالة تركتها سلمى ،تشرح فيها موقفها بدموع حارة متدفقة من قلب صغير تحمّل الكثير ليصل لهذه اللحظة… وقف سعيد حاملا الكتاب وراح يقرأ الرسالة :
“سعيد…، كان لي وافر الحظ الجميل حين إلتحقت بالجامعة ووجدتك لازلت تدرس في عامك الأخير، وكم كنت سعيدة جداً حين رأيتك أول مرة، لكنك كنت مشغولا بأصدقاءك وصديقاتك الجدد، بينما كنت أبحث عنك بين قوائم الطلبة وفي الأقسام والمدرجات، همي الوحيد أنني ألتقيك أو أراك لأكمل يومي سعيدة جدا،ً…كنت مستنفرة الحواس وكنت كصعلوك يمارس عدم الإهتمام واللامبالاة وأنت تقتلني كل يوم حين أراك مع إحداهن، لكن لاعليك كل ماأردت قوله في هذه الرسالة التي كتبتها وخبأتها منذ زمن أنني حاولت الهروب منك جاهدة لأبحث عمن يبادلني مشاعري النبيلة إلا أن تيارك كان يجذبني بين فينة وأخرى، أجل يا سعيد كل مارنّ هاتفي تذكرتك ،وكلما دق الباب تذكرتك، وكلما رأيت زوجا يداعب أبناءه تذكرتك، كل شيئ كان يذكرني بك وأنت أهم من كل شيئ،كنت الحاضر الغائب يا سعيد … كان وقع خبر زواجك على مسامعي كالصاعقة لأنني همت بحبك وفضلتك على كل أقرانك، رفضت عروضا مغرية من أجلك، وها أنت اليوم سعيدا بعيدا تنعم بشريكة حياتك غير مبالٍ بما يدور حولك،… أتعلم يا سعيد أن معظم زبائنك كنت من أوجههم لمكتبك بحكم عملي في صندوق التقاعد ، ألم يخبرك يوما أحدهم أنه مبعوث من سلمى، كنت أحافظ عنك حتى وأنت لاتشعر بي إطلاقا ،كنت طيبة جدا في مشاعري وكنت أؤمن بأنني سألتقيك يوما ما لأن حبي كان صادقا ولم أفكر يوما بماويسيئ لسمعتك وشخصك… كل الحب لك يا سعيد، لا أريدك زوجا ولا أريد أن أقلب حياتك رأسا على عقب، فقط أريدك كما عرفتك أول مرة، كما رأيتك ذلك الشاب اليافع المرح الذي كان يوزع الإبتسامات لكل الناس إلا سلمى… سلمى التي أحبتك وإحتفظت بك بين حنايا صدرها الحنون… فلتخلد سلمى في جحيم غربتك، ولتخلد أنت في نعيم حياتك التي اخترتها بنفسك……..
المخلصة لقلبك “سلمى”
…تجرع أنفاسه وخيبة أمله وراح يضرب على ناصيته بقوة، وهو يطلب الكاتبة…إإتني بكأس ماء باردة…، ثم نهض وجال في ساحة مكتبه وهو يفتش جيوبه كمن يبحث عن شيئ لم يجده، لقد جُنّ سعيد، قتلته رسالة سلمى، عاد عبر كبسولة الزمن يبحث في يومياته الجامعية عن فتاة إسمها سلمى ،عن ظلٍ لازمه طيلة عامه الأخير، لم يجدها…فيقول في نفسه :كيف لا أذكر هذه الجميلة؟… أكانت تتبعني حقيقة؟… كيف لها أن تختفي، لا يمكن لجمال كهذا أن تخبئه أسوار الجامعة؟… دقت الكاتبة الباب حاملة كأس الماء وراح يحملق بها إلى أن خرجت ،شرب قليلا من الماء وقال بصوت خافت :كيف تكترث هذه الفتاة لصعلوك مثلي غابت مشاعره واهتماماته طيلة عام عن وجه سلمى الحَسين، …آه يا سلمى زادتني رسالتك شوقا أكثر من ذي قبل، جاء دوري لأبحث عنك في منازل الراحلين، جاء دوري لأكتب شقائي وكل العالم يتفرج بمن فيه زوجتي وابنتي، سأخالف الأعراف وسألغي ببعض التزاماتي جانبا، يلزمني بحث عميق في داخلي في ثروتي الرومنسية التي خبأتها لزوجتي، حان الوقت لأوفق ولو بالشيئ اليسير….
ثم إنتفض من مكانه وقد طلبه أحد زبائنه، وما إن وصل للزبون حتى سأله: من أرسلك يا هذا؟ فأجابه الزبون والإبتسامة تعلو محياه :تلك الموظفة الجميلة بصندوق التقاعد “سلمى”…لكن غيرة سعيد على سلمى جعلته ينزع الأوراق وبسرعة من يدي الزبون وهو يقول في نفسه :تفرّق جمالك يا سلمى بين ثغور الناس وظننت نفسي، الوحيد من يذكرك ويهتم بك….
عاد سعيد لبيته وهو يحاول أن يسترجع القليل من أنفاسه، دخل البيت فوجد زوجته منهمكة في ترتيب أمور بيتها، فألقى عليها تحية لم تعهدها من قبل محاولا استدراجها بنوع من المزاح وسرعان ماكانت واقفة بين يديه، تلك الزوجة الوفية وإن كانت لا تحمل في تقاسيم وجهها سوى القليل من الجمال إلا أنها جميلة من الداخل، من العمق الذي تفتقده الكثير من النساء، عمق الزوجة الصالحة .،فقال لها :وددت أن أخبرك يا أم رتاج بشيئ طالما فكرت فيه لكنني أتراجع حين أتذكرك وأتذكر رتاج ،أخاف في كل مرة أن تتوتر العلاقة بيننا بعدما عهدتك من تحافظين على العشرة وأنت الصامدة التي لا تزعزعك الظروف…، فقالت :أفصح يا سعيد عن ما بداخلك لاتترك شيئا يعذبك فقد أخذت نفسك في حالي ألما بليغا وأنت تتغير كل يوم….، صمت هنيهة ثم قال :مارأيك يا أم رتاج لو تشاركك امرأة حياة زوجك؟ …وقد استدرجها لتأخذ عنوانا يليق بقدرها، صمتت أم رتاج بعدما إحتل سعيد عاصمة أحاسيسها المرهفة بهذا السؤال الذي لم تهضمه، لكنها كانت تبتسم دوما وتخفي آثار الألم بداخلها ولا يعلم بهذا الألم غير سعيد…
فتجيبه أم رتاج :أحلّ الله لك أربع نساء يا سعيد، لكن مالشيئ الذي دفعك لهذا السؤال، ألم تشفع لي خدمتك بأن أكون كل شيئ في حياتك وأنا المحافظة على مزاجك وتقلباتك،… تأكد يا سعيد بأنني لن أمنعك لكن لا تغرنك المظاهر ،أنا بحر يا سعيد فهل يصلح للبحر أن يبكي على تفاهاتك التي تسكن عقلك وقلبك، لكن لك ماتريد لا أستطيع منعك لكنني أستطيع أن أبرهن لك بأنك لن تجد من تحمل تقلباتك وسهراتك وتأخرك المعهود، لن تجد من تفتح عنك الباب ليلا وتنهض باكرا لتمنحك زاد سفرك بيدين مرتعشتين خوفا من عدم عودتك، لن تبكيك غيري في غيابك يا سعيد لكن…. فقاطعها سعيد قائلا :أنا سألتك يا أم رتاج لكن إجاباتك كانت مؤلمة، ماهكذا يكون ردك وأنت المرأة العاقلة الصادقة النوايا،… فقاطعته: أهكذا يُفعل بصادق النوايا ياسعيد، ماذا سيكون رد من ستشاركها في زوجها امرأة ،هل ستفرح؟، أكيد سيكون ردها عنيفا وأنا لحد الساعة لم أكن عنيفة معك فقد حاورتك بحياء وخجل، لا زلت أقدس رجولتك يا سعيد لكنك رميت بأنوثتي في غياهب لا مبالاتك ورحت تبحث عن شيئ غير قادر على مسايرته… لن أزيدك كلمة ياسعيد… وانصرفت….
إنتفض سعيد من مكانه ودخل غرفة النوم أغلق الباب ورمى نفسه على السرير وفتح نافذة التفكير يفكر بسلمى… لقد منحتني زوجتي الموافقة لكن بكومة. من التبريرات أظنها صائبة فيها، أم رتاج زوجة صالحة، لكنني لم أفعل شيئا قررت تكرار الزواج فقط وهل هذا حرام؟… لكنه سرعان ماعاد يمدح تلك الجميلة سلمى في قرارة نفسه… دقّ الباب… عشاءك جاهز يا سعيد،… لقد عادت أم رتاج إلى مزاجها الطبيعي أتمنى ان تكون قد زالت تلك الافكار من دماغها… أنا قادم يا ام رتاج… قابل زوجته وابنته وراحا يتحدثان على مائدة الطعام عن دروس رتاج ومعلم رتاج وصديقاتها، بينما رتاج منهمكة في الأكل، وأمها تسترق النظر بين الفينة والأخرى لوجه زوجها سعيد، كأنها تودع فيه هذا الشمل الذي ربما لن يتكرر في أيام قادمة وهذا لماهو مقبل عنه سعيد…
في الصباح الباكر خرج سعيد وهو يدرك جيدا بأن الزمن وحده من سيدله على الصواب لأن ماقالته أم رتاج كان كافيا كدليل على صلاحها ،لكن سعيد متوجها الآن لمقر صندوق التقاعد ليرى من أخذت منه روحه وعقله وقلبه… دخل للمقر وأخذ في زاوية من زواياه مجلسا يراقب سلمى عن كثب وهي تكلم هذا وتبتسم مع هذا وتروح وتجيئ لمسؤولها، بينما كان لسعيد تفكير آخر، هل يمكنني العيش مع هاته الفاتنة وأنا أراها كل يوم تجالس الرجال وتكلمهم؟…ثم يتنهد وهو يقول :لكنها تمكنت من قلبي ولا أستطيع أن أتصور يومياتي بدونها…وأظن أن جرائمي ستتعدى خطوط سلمى الحمراء ،سأكون كهلا عاشقا يبحث عن شبابه في تقاسيم وجه سلمى، سأكون ذلك الأعزب الذي ينتقي زوجته بمقاييس تواكب الحداثة… ستكون سلمى بطلتي التي طالما كنت أبحث عنها، أنا متعلم ووجب أن أتزوج متعلمة… أم رتاج مستواها لا يكفي لتتعايش مع مثقف مثلي… ثم يردف، لكن أم رتاج امرأة رزينة هادئة يشع من وجهها نور العشرة الطيبة…، هي طيبة وجميلة النفس والروح لكنها ليست جميلة بما يواكب مستواي ، فجأة أصبحت أعشق الجمال… ماعدت سعيد الذي كان… غفر الله لك يا سلمى… غفر الله لك…. بينما هو على هذا الحال حتى وقفت سلمى أمامه،..فقام سعيد منتفضا كمن أفاق من حلم أو بالأحرى كابوس…، إجلس يا سعيد… تقول سلمى، ما أتى بك إلى هنا، هل لي بمساعدتك؟… يصمت سعيد وقد تلعثم لسانه من جرأة سلمى : الشيئ الذي أريده يا سلمى أظنه أمامي وما خفي من أحاسيسي لوقفتك هاته كان أعظم… متى سأنال مرادي ياسلمى؟… فتجيبه :وعن أي مراد تتحدث؟… أتحدث عنك وعن حبك …أريد أن أهجر التفكير بك، أريدك لي، أريدك ملكي… إبتسمت سلمى وقالت :ومن قال لك يا سعيد أنني أريد ذلك؟… ورسالتك يا سلمى وكلماتك الجميلة ورحلتك التي أخذتيني فيها إلى أيامي الخوالي؟… قد قلتها يا سعيد تلك أيام خوالي وكنت أحصد ألفاظا زرعتها منذ زمن لكنها لم تثمر فأثقلت قلبي وصارت عبئا فنثرتها لك في رسالة لأخفف أوجاعي…كل شيئ كنت أريد قوله لك قد قلته في تلك الأسطر، لك أن تبرح المكان يا سعيد ،وتفكر في عائلتك وزوجتك أما أنا فقد تمت خطبتي لشاب لا أعرفه لكن أظنه قدري الذي انتظرته… جلس سعيد وقد زاحمته موجة عرق اجتاحت جبينه الواسع وقد تذكر ابنته رتاج وهي زهرة في ربيعها السابع، وتذكر أم رتاج، تلك المرأة التي لم تعكر يوما مزاجه ولم تفسد عليه سعادته بل كانت صريحة جدا، وقد عرف لتوه أن القدر قد حمل لها سعيد على طبق من ذهب لتسعد به بقية حياتها…
إنصرفت سلمى لعملها وانصرف سعيد ليجلس في زاوية من مقهى صديقه حمزة يسترجع أنفاسه وهو يبصق ماتبقى من فتات سيجارته بعدما استحالت رمادا،.. يجلس بجانبه حمزة صاحب المقهى :اهلا بسعيد، كيف هي أخبارك وكيف هي عائلتك… ينظر اليه سعيد وهو يشير بيده رافعا اياها للأعلى ثم إلى الأسفل في نفس الوقت”حطة ورفعة يا حمزة”…كنت لتوي في موقف لا أحسد عليه ،لقد زرتها يا حمزة في مكان عملها وقد طردتني بلطف،أجل بلطف لا أستطيع وصفه، كانت إجاباتي تأبى الخروج لأنها على حق، لقد أثلجت صدري، وإن كنت لازلت أبحث عن نفسي في تقاسيم وجهها وفي كلامها الهادئ إلا أنها كانت منصفة وحديثها مقنع… فقاطعه حمزة قائلا : سلمى امرأة جميلة لكنها تحب المظاهر والعيش الرغيد ولا اراك قادرا على ذلك… يصمت حمزة ثم يواصل حديثه وقد أغمض جزءا من عينيه كأنه يفكر في شيئ قائلا :أما أمُّ رتاج يا سعيد فهي الزوجة التي طالما شكرتها لي، هي أم الولائم، أم الضيوف، أم الأفراح… ولا أظن ان سلمى قادرة على إعداد وجبة لضيفان، ضيفان فقط يا سعيد،المرأة التي لا تحفظ لك ماء وجهك فلا قبل لك بها…آه….. لقد توغل حمزة في ثنايا نفسية سعيد ليثأر لأمّ رتاج مايفكر به هذا الزوج المجنون ، لقد بدأت الهوة تتسع بين سعيد وسلمى بعدما سمع من فمها، وزاده صديقه ماتبقى من حديث لابد له أن يُقال… أم رتاج لم تفكر يوما في بتر حلم سعيد، لكنها إقترحت عليه أن يفكر في الأمر مليا بل وتركت له حرية الرأي بعدما شاع بين جيرانها ماهو مقبل عليه ….
قام سعيد ليذهب لمكتبه بعدما سدد قهوته وترك الفكّة لصديقه حمزة قائلا: إحتفظ بها كأجرة لنصيحتك وهو ينفجر ضاحكا، عادت لسعيد إبتسامته التي فقدها،وشفي غليله كعائد من الحرب بغنيمة تلك أم رتاج المرأة الجميلة الروح غنيمة أهداه الله إياها دون أن يخوض كل هاته الحروب، تلك المرأة المحتشمة ذات حياء أنثوي أخّاذ…
إرتمى بجسمه المتعب على إحدى الأرائك بعد أن وقفت الكاتبة أمامه تستشيره في بعض المراسلات وهو معلق بروحه ببعض أهداب أمل قد نثرها في قلبه صديقه حمزة… سأشتري هدية لأم رتاج، سأشتري لها فستانا، فليكن خاتما، ولما لا اقراطا وقلادة جميلة، كان يحدث نفسه، بل يستشيرها كأنما يستشير زوجته في إختيار الهدية …لقد أسعدني حديثك جدا يا حمزة ،كنت عنصرا مهما وفعالا في عودتي لعائلتي الصغيرة ،…
كانت تلك الأمسية كافية لتعيد سعيد لرشده وهو يسترجع أصعب المواقف التي وقفت معه فيها أم رتاج،….أخيرا همّ بالنهوض ليبتاع ما قرر أن يهديه لأم رتاج وكذلك ابنته….
عاد سعيد يحمل بين يديه الهدايا التي اختارها لعائلته ،وما إن ولج البيت حتى استقبلته ام رتاج مبتسمة وهو يقول لقد عدلت عن قراري يا زوجتي، وراح يحتضن شخصا لم يخذله في يوم من الأيام، تلك الإنسانة التي قاسمته أفراحه وأقراحه طيلة ثمان سنوات… إحتضنها سعيد بعد أن نصب حنينه إليها خيمة فوق رأسها ووجهها الباسم يحاصر بريق عينيه بينما كانت رتاج تمسك بطرف معطف والدها محاولة الوصول إليه……… …….إنتهى.
الشخصيات:
الكاتبة:فتاة تعمل عند سعيد في المكتب.
حمزة: صاحب المقهى، صديق لسعيد وزميل ددراسة.
سعيد:كاتب وشخصية محبوبة إلا أن محاولته في إعادة الزواج جعل منه رجلا حادا، وهكذا هي طبيعة الرجال.
رتاج: البنت المرحة لسعيد.
أم رتاج: زوجة سعيد وهي شخصية هادئة ورزينة ،وأمثالها قلائل .
سلمى: الشابة التي أحبت سعيد دون علمه، لكن حبه لها جاء متأخرا وكان موقفها جميلا جدا فقد ساهم في عودة سعيد لعائلته.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى