مات مخلفاً وراءه الحياة. مسابقة القصة القصيرة بقلم / سيما خالد محمد صقر من فلسطين
الاسم: سيما خالد حمد صقر
البريد: [email protected]
العمر:15
العنوان: فلسطين
…………………
قويّ، شجاع، معطاء، عاش فخط للناس معاني الشهامة، كلُّ ندبة في وجهه وسام شهادة مرصع بأعظم قصص التاريخ، أبي لم يشبهه أيُّ مختار، بل لم يشبهه أيُّ أحد.
منذ أول وهلة لي في هذه الحياة وبلدي تتملص من حرب إلى حرب، وأبي يأبى أن تفوته متعة تمزيق الأعداء أو يفرط في تصريح يسمح له بلقاء الرفيق الأعلى.
في 28-4-1948 نسل أول وآخر خيط من نسيج حياتي، دخل الاحتلال قريتنا، قال أبي لأمي: “واللهِ ما رمقت عيناي منك أيَّ خيانة، والإنسان لا يدري متى مصرعه فخذي الأطفال فإنهم بين يديك أمانة”، ثم قبَّل وجنتي أنا وإخوتي الخمسة، ومضى متوكلاً على الله، وقفت على النافذة أحدق بأبي تمنيّت لو ينظر للوراء علي أحفل بشيء منه، لكن أملي خاب وأكمل والدي طريقه دون أن يلتفت للوراء.
في منتصف الليل شرع الذعر يتسلل لقلوبنا، وبصيص الأمل بدأ بالتلاشي، فالصمت عم أرجاء القرية وأبي لم يعد بعد، النعاس هجر أعيننا وبقينا مستيقظين حتى الصباح وأمي تخاف الخروج بحثاً عنه خشية أن يصيبنا مكروه، بزغت الشمس واخترقت أنوفنا ريح الورود النرجسية محقونة بدماءٍ طاهرة، اقتربت من أمي فإذا بالدموع تصافح وجنتيها، الانتظار لم يرحمنا بدا وكأنه قاتلٌ متنكر بقناع اللطف يقتلنا ينشر الشلل فينا رويداً رويداً.
في الثامنة والنصف سمعنا وقع أقدام زلزلت الحديقة، وما هي إلا هنيهةٌ حتى رأينا الباب ينفتح وجثة أبي ممتثلةٌ أمامنا، كلُّ الزهور ماتت، الأضواء انطفأت، لساني أصبح مراً فاقداً لسكر الحياة، العصافير صمتت وأمرت أولادها بالتوقف عن اللعب، مرَّ شريطٌ من الذكريات أمام عيني عُرضت فيه صور أبي، تارةً يضحك، تارةً يغضب ويصرخ في وجهي ومن ثمّ يأنبه ضميره فيأتي إليّ يقبلني ويلعب معي بألعابي، تلك اللحظة مزقت مشاعري، حطمت فؤادي أحقاً مات أبي؟! شئت أن أغرق الأرض دمعاً، وأنكب على الطغاة المتجبرين أبرحهم ضرباً، ضغطت أمي على أيدينا أنا وأخوتي وقالت: “حسبي الله ونعم الوكيل”، فعلمنا أن هذه رسالة منها لنكتم دموعنا التي قدم الاحتلال خصيصاً ليشاهدها ويستمد منها الغبطة والسرور.
قهقهات الجند الخبيثة ما زالت تتردد في مسامعي تدمر أعصابي، هذه سياسة الحتلال التي تدعى بالحرب النفسية، أبي كان شعاع الحياة لي ولإخوتي ولأمي ولأهل القرية أيضاً، مات فمات معه كل شيء، علاوة على الأسى والحسرة التي أحسست بهما لم أنسّ الإحساس بالمسؤولية الواقعة على عاتقي فأنا الأخ الأكبر ومنذ تلك اللحظة صرت معيل الأسرة، فقررت الالحتاق بالجيش لعلي أنصر وطني وآخذ بثأر أبي.
مرت الأيام والشهور والسنين كأنها دقائق معدودة، لا أتذكر أنني التفت مرةً إلى الوقت فكلُّ ما كان يشغلني نصرة وطني، وإشباع تلك الرغبة في داخلي ألا وهي الانتقام، وبعد عناء طويل، وتدريب لم أتغافل عنه قيد انملة، حان الوقت المناسب والفرصة أتت بقدميها إليّ، حيث تمَّ إرسالي لتفجير أحد التجمعات السكنية اليهودية رداً على قصفهم حيّ الشجاعية في غزة، وفعلاً ذهبت، أخفيت القنبلة وضبطتها، استقليت حافلة خاصة لنقل العرب وابتعدت، ثمَّ ما لبثت أن رأيتني أوقفت الحافلة واستقليت أخرى للعودة إلى ذات المكان، وركضت بأعلى سرعة للوصول للقنبلة، أمسكتها بيدي المرتجفتين، قطعت أسلاكها، وأنكبيت جاثماً على ركبتي أحمد الله وأبكي، عدت للمقر وأخبرتهم بتراجعي عن العملية فظهرت عليهم علامات التعجب والدهشة وانطلقت ألسنتهم تسأل: لم فعلت ذلك؟! أليست هذه هي الفرصة التي تنتظرها منذ زمنٍ طويل؟! أنسيت ماذا فعلوا بأبيك؟
فرحت أجيبهم: لا لم أنسّ أنا أذكر ذلك تماماً، لكن ما ذنب اليهود المسالمين الذين يقطنون في ذلك التجمع؟! ما ذنب الأطفال والشيوخ والنساء؟ ألم يأمرنا إسلامنا بألا نقتل إلا من يقاتلنا؟ نعم مات أبي لكن أتعلمون بوفاته عاش رجلٌ في داخلي، كنت مخطئاً حين قلت أنه حين مات مات معه كل شيء، يفترض بي القول مات فعاش كل شيء، عاشت فيَّ شهامةٌ مختبئة، وطنيّة مكينة توغلت في قلبي وعقلي، رحمك الله يا أبي خلقت وراءك حياةً لي، صحيح أن الفلسطيني عندما يموت لا يملك مالاً يتركه لأبنائه، لكنه يورثهم ما هو أثمن بكثير، يورثهم سلالم يصعدونها إلى الجنة.