ط
مسابقة القصة القصيرة

الحب الأزرق .مسابقة القصة القصيرة بقلم / نسيبة عطاء الله من الجزائر

مسابقات همسة

قصة قصيرة

بقلم نسيبة عطاء الله من الجزائر

الحُبُّ الأزْرَقْ

-هُنالِكَ أسئلةٌ تستفزُّ فينا نزعةَ الحَجَريَّة والبِدائية, تُحَركُ فينا الوَحشية لكننا في مواجهتِها لا نملكُ إلا عضَّ أجفاننا وشفاهِنا السُّفلى بغيظ, وربما نضربُ أولَ شيءٍ يُصادِفُنا بأقربِ شيء يُصدافُه!.. وعلى أقلِ تقديرٍ نقول بمرارةٍ “تَبًّا”…
-شَعَرَت أنها تريدُ سماعَ الأغنيةِ التي حرمتها الشبكة السيئة من الاستماع إليها ليلا, والتي أرسلتها إليها إحدى صديقات الفيسبوك لسهرةِ البارحة!..
يبدو أن النّت ينامُ أيضا ويحس بالتعب, ولم ينهض بعدُ من فراشه.. مثلها! فقد حاولت إيجاد اسم صديقتها بين قائمة الرسائل والظاهر أنه لا جدوى من الحصول عليه بهذه الطريقة.
وفي عالمِ الفَيسبوك هنالكَ دوما بدائل.
حرف الـ

هو الحرف الذي يبدأ به اسم صديقتها, ولأن اسمها طويل -الفتيات يخترن لهذا العالم أسماء تصلح فكرة عامة لرواية تتحدث عن أزمة المراهقات في العالم العربي- قررت أن تكتب الحرف الأول فقط والبقية تأتي.
كتبته على شريط البحث وسرحت لا تفكر في شيء وهي تراقب النقاط المتتالية تتابعها جيئة وذهابا..
لا تذكر أنها بحثت عن شخص منذ وقت طويل.. طويلٍ جدا!
توقفَت النقاط المتحركة, وانسدلت قائمة الذين تبدأ أسماؤهم بهذا الحرف..
-لقد تحدث الكثيرون عن الحبِّ من النظرة الأولى, لكنها لم تسمَع أحدا تحدث عن الموتِ من النظرة الأولى.. ربما لأن الحب والموتَ لا فرق بينهما!
لم تكن النقاط المتحركة وحدها التي توقفَّت, بل الفيسبوك, والشبكة, والزمن والعالم وعيناها ويداها وقلبُها.. لا قلبُها لم يتوقَّف.. كان الوحيدَ الذي يلهث هارِبا في الفراغ.. في نقطة التوقف الكبيرة.. الكبيرة جِدا!
-مع الوقت الألم يصبحُ عادة يومية, والحروف التي يوما قتلَنا وجودُها في أسماءٍ أخرى تُصبحُ شيئا لا مرئيا تعبُرُهُ نظراتُنا وأقلامُنا وأنامِلُنا, ولوحاتُ مفاتيحِنا في صمت!
ننسى أنَّنا قضينا عُمرا نُلِحُّ كتابَتَه ونصرُّ عليها, علَّ ذاكرةَ هذا العالم الأزرقِ اللعين تُخطئ.. لكنَّ ذاكرة الأرقامِ لا تُخطئ ولا تتصنَّعُ الأوهامَ والأطيافَ والكذِب!
-النظرةُ الثانية هي النظرةُ المحرَّمَةْ في قانونِ “السّلامة”, لكنَّنا كبشَر نُشرِّعُ الندامةَ ونفتحُ لها الطريقَ إلى رغباتِنا.. النَّظرةُ الأولى علينا بالتوعُّدِ ونحنُ لهاَ بالتودُّد.
-ذاكرةُ الحروفِ لا تُخطئ, إسمهُ لم يولَدْ من جديد, ربَّما هذا ليس حِسابي؟؟
إنها أسئلةٌ تُشابِهُ أسئلة كل البشر الذين تعودوا على موتِ أحدهم ثم يجدونه فجأةً على قيدِ الحياة.. في النظرةِ الأولى نتوقف, في الثانية نتفحَّص, في الثالثة نُحاوِلُ أن نُصدِّق!
-وفي كلِّ هذا نتذكَّر.. نظرَت إلى الاسم الذي يعتلي القائمة, يعتليها ويتفرَّدُ بها ويسودُها كما كان منذُ وقتٍ طويل.. طويلٍ جِدّا. وقفَت مثلَ مسافِرٍ عادَ إلى خرابِ وطن يحمِلُ مفتاح بابٍ مخلوع, كيفَ يوما كتبَت ذلكَ الحرف, ثم الحرف بعد الحرفِ حتى آخر حرف متضرعةً أن يكونَ اسمه متمردا على ذاكرةٍ رقمية لا تُخطئ, يوما بعد يوم.. وكلَّ يوم ..والاسم غادرَ بحروفِه, هل اليومَ عاد؟ عادَ حينَ لم تعُد تبحثُ عنه, عادَ مُعلِنا عن نفسه من أول حرف, وكأنَّ الحرفَ لم يكُن يوما إلا له.. لهُ فحسب.
-حينَ يعودُ لنا غائبٌ ظننا أنه لن يعود, نتوقفُ عندَ النظرةِ الأولى نُقارِبُ ملامِحَهُ بصورةٍ أطبقَت على القلبِ فعكَسَتْ وساوِسَه. نقترِبُ منه شيئا فشيئا لأننا نُريدُ ألا تكونَ الصورةُ صورةً في خيال بل حقيقة, نتمعَّنُ بأيدينا هالَتَه نخترِقُها بحذَرٍ حتى نصِلَ إلى حُدودِه وحينَ نضعُ قدَمًا في الواقعِ نشهَق.. نتزَلزَل.. نرتعش.. نضعُ يداً على فمِنا ويداً على ذراعِه, لكي لا يَخونَنا الواقِعُ نُمسِكُ بِه, ونحنُ نصطَكُّ بالبردِ والحُمَّى.. ندخُلُ في حُضنِ الحقيقةِ خُطوةً خُطوة..
هكذا فتَّشَت في اسمه حرفا حرفا فهي لا تُصدق الحياة, لا تُصدق شيئا يتعلَّق بالفرح, ارتجفَت ضحكتُها وتقوَسَت للأسفَلِ بينَ انتحابٍ وابتسامة, في انقلابِ كل شيء حولَها كان اسمه وصورته هما الشيء الثابت, والسطرُ الذي وُلِدَ من الذكريات ليمحوَ كلَّ الغياب, وكأنهُ لم يغِب, وكأنهُ كان هُنا دوما سيِّدَ هذا العالَم, وسيِّدَ القوائم!
-القلبُ تُرقِصُهُ همسة, والحبُّ تصنعهُ لمسة, والقربُ يُثبِتُهُ العِناق, وفي هذا العالَم الحقيقةُ تُؤكِّدُها ضغطة. ضغَطَت السَطرَ السيدَ الساحِر وكمصباحِ علاءِ الدّين, خرجَتْ الأمنياتُ في إطار, في صفحة, في مُستطيلٍ يحتكِرُ قلبَها ومنذُ وقتٍ طويل, طويلٍ جِدا هي تسكُنُه, كانَ مُغلَقا عليها, كان محظوراً عليها أن تفتَحَ على نفسِها الباب, وترى الفتاةَ التي أودَعَتها في “صفحة”, كانَ عليها أن تنقسِم وتنفصِم لحظةَ فتَحَتْ مرَّةً البابَ ووجدتهُ مُوصَدا, ووجدَت المكان مُقفِرا, موحِشا خاليا إلا من حوافٍ زرقاءَ تُشبِهُ حافة مِقصلة, كانَ عليها أن تنقسِم وتترُكَ من ذاتِها فرحًا يسكُنُ بعيدا عمَّا كانَت تراه, فما تبَقَّى فيها وأخذَتهُ معها, مُثخَنٌ بالكَدَمات تماما كتِلكَ اليَدِ المكسورة التي تضعُ علامَةَ إعجابٍ مُغلَّفَةٍ بجبيرة.. الذي اخترعَ لنا الصَّفعَةَ صنعَ لنا في مُقابِلِها ما يُواسينا, ما يَظهرُ لنا في تقديره أنَّهُ مُتضامِنٌ مع قلوبِنا المكسورة, يقولُ لنا بشكل ما ضعوا مثلي جبيرة, ولفُّوها بلُفافاتِ مومياء, يقولُ لنا بشكلٍ ما الكسورُ يطولُ شفاؤها.. لكنَّها تُشفى!
-كانت تظنُّ أنَّها شُفِيَت, قبلَ أن تفتحَ البابَ الذي كانَ موصداً على نِصفِها, كم هو جميلٌ وكم هي بائسة!.. لكن هذا الذي يحدث لها لا يُسمَّى هكذا, يُطلَقُ عليه اسمٌ آخر…
راحَتْ تبحثُ عنهُ في صوَرٍ شارَكَها “الجميع”, أعجِبَ بها “الجميع”, علَّقَ عليها “الجميع”, كلُّ صورةٍ, كلُّ منشور كانَ يُخبِرُها أنَّ نصفَها الآخر, ذلكَ الذي تركَتهُ في حديقتِهِ نزلَ عليه الشِّتاء.. لم يكُن بخير! لم يعُدْ بخير!
-بينما كانت “محظورة” كانَ الكثيرونَ هنا, يتركونَ خلفهم الضَّجيج, لكنَّهُ لا أحدَ جلسَ على مقعدِها, ولا أحدَ طمسَ خُطاها, بينما كانت محظورة لا أحد أطفأ حنينَه إليها, ظنَّ أنه سيعودُ بعيدا عنها كما كان, لكن القلوب التي يعبُرُها الحبُّ تُقيمُ فيها أقدامُه! فهل اعتقدَ أنها امرأةٌ عبرَتهُ طائرة؟ الفرقُ بينَ امرأةٍ بجناحين وامرأة بقدمين أن الأولى تتركُ عِطرَها, والعِطرُ يمحوهُ عِطرٌ آخر, أما الثانية فتتركُ آثارَها لأنَّ من يمشي على الرمال ليس كمن يمشي على الطين, وقلبهُ لطالما كان أرضاً يلتصِقُ بها ويحفِرُها كلُّ من يأتيه ماشيا, لم تكُن فَطِنةً بما يكفي لتَغرِسَ هُنالِكَ أشجارَها, فالحبُّ يُعمي والحبُّ يُدمي البصيرةَ ويُشوِّهُها, والحبُّ لا نُدبِّرُهُ ولا نرحَلُ إليه, بل نتعثّرُ بهِ في الطريق, في طريقِنا إلى هدفٍ آخر, ووجهةٍ أخرى, الحبُ هو الأرضُ التي نفترِشُها لنستريح والقلبُ الذي نقصِدُهُ لنشرَب, فهل جفَّتْ مياهُهُ بعدَها؟
ربَّما, فثمَّةَ آبارٌ تجِفُّ بعدَ أحدهم, وعيونٌ تتوقّف.
لم تغرِس فيه أشجارَها, إكتفَتْ بزرعِ بذرة!
لم تدخُلهُ طائرة, دخَلَتهُ حافية!
-على صفحتِهِ لا شيء كان يُحيلُ إليها, لكنَّ صورَهُ كانتْ تقولُ بأنَّه لم يَعُد الرجُل الذي كانَ قبلَها. وربما شُفيَ منها لهذا أطلقَ صراحَها!
رُبَّما فكَّ حظرَها لأنَّهُ يريدُ الاطمئنان إلى أنها لم تنسَه, ما زالت تَبكيه, ما زالت تكتبُ عنه وتستجديه أن يعود, ليس بالضرورةِ أنَّهُ اشتاقَها, فقط أرادَ أن يطمئن أنها لا تزالُ في خزانته, كأيِّ شيء لا يُريدُ فقدانه ولن يحزن إن فقده, لكن يؤذيه أن يصبح لغيره!
هل كان يعدُّها إحدى مُمتلكاتِه؟ هو امتلَكَها فِعلا وطوعا, لكن.. أرادَت أن تسكُنَ في قلبه, ليس في درجه, ليس في علبةِ الواردِ التي لا يفتحها, ليس في شاهد الصداقة الذي لا يراجعه, ليس في ذكرياتٍ لم يحِن عيدها بعد!
بَكَت تقول:
هل يعودُ اسمُكَ هكذا؟ غريبا كأنني لا أعرفُه؟ وكأنني لا أعرفك يسألني الفيسبوك إن كنتُ أعرفك؟
إن كنتُ أعرفُك يا رجلا لا أعرف سواهْ, أن أرسِلَ إليكَ رسالة؟
رسالة؟ وكأنني لم أقضِ عمرا طويلا.. طويلا جدا أراسلك, وأنتظر رسائلك, ومحرومة من رسائلك, ولا أستطيع أن أراسلك؟
خيار طلب الصداقة غير موجود, لا تريدُني أن أكون صديقة! هل لأني أصبحتُ أكثر من ذلك؟ أو أقل؟ أم لأنكَ لا تُريدُني في حياتِك! فأنتَ تعرِفُ أنه إن أنا دخلُتُها لا سبيلَ لكَ لإخراجي, هل تخافُ الوقوعَ يا حبيبي الذي يتصدَّرُ كلَّ شيء ويقفُ شامِخا؟!
ألم أصبِح أثناء كل هذا الغيابِ يوما حبيبتَك؟ وأردتَ أن تخبرني بذلك ومنعتك كرامتك, منعك غرورك؟
كل احتمال يقول بأنني حبيبتُكَ لا أريدُ أن يخطُرَ لي, فأنتَ كنتَ تكتبُ لي أكاذيبَك, ما تُريدُ أن يُصبحَ قصيدةً تُقال أو حكايةً تُكتَب أو مسرحية تُمَثَّل, وليس ما تُريدُ أن يكونَ حقيقةً تعنيك, أو سِرًّا تعيشُهُ بينكَ وبينك, أو حكايةً أنا وأنتَ كلُّ فصولِها, أردتني ذكرى تفتحُها حينَ تقرأُ كتابا عن الحبِّ المستحيل حتى تقتنع بمحتواه, أردتَني خطيئة تستحضِرُها في بكائك حتى يزداد خشوعك وتنهال دموعك, أردتَني قصةً دون نهاية حتى تتخيلَ لها نهايةً كلما لم تجد ما تفعله ذات فراغ, أردتَني أدَبا وأنتَ كنتَ قريحتي.. لغتي.. خيالي.. مشاعري, أردتَني جزءً وأردتُكَ كُلا أردتَني وسيلةً وأنتَ كُنتَ غايتي وهنا افترقنا.
كان لا بدَ لي ألا أصدِّقَ الأحلام ولا أستسلم للنوم, وأتذكَّرَ أنكَ الأرضُ التي وقفتُ عليها لأستريح لا لأبكَي فيها وأمكثَ وأُقيم, فمالي أنا نسيتُ وجهتي وجعلتك وجهة, وأضعتُ قبلتي وجعلتُكَ قِبلةً, وتركتُ حقيقَتي على رصيفِ الأمنيات وآمنتُ بأنكَ حقيقتي! هل هكذا أخطأني الواقعُ ومضى حيثُ ذهبتَ أنتَ ولم تأخُذني معَك؟
فسكنتُ حيثُ أشياءٌ منكَ لا تشبهُك, قد تُلغيها يوما كُلَّما ألغيتَني, وتُعيدُني إذا أعدتَها؟
هل هكذا أصبحتُ أنا لا أعرِفُك.. وهل حقا عرفتُك؟!
-لا يكفي الألمُ لنصنعَ القرار أو نُجيبَ على الأسئلة, كانت هشَّة جِدا أكثر مِمّا تكرَه يائسةً أكثرَ مِمّا عاشَتْ, أحبّتهُ حتى الحاجة, وحين نحبُّ شخصا لدرجة أن نحتاجهُ لنحيا لا سبيلَ للحياةِ إلينا إن لمْ يَجلِبها معه. قد عادَتْ فقطْ صفحَتُه, عادَت كما قبلَ البِداية, بنِصفِ تعريف.. والبداياتُ لا تعود, عادَتْ غريبةً موجِعةً, لكن العزاء أنها عادَتْ كيفما كان عادت, وعاد حرفُه سيدَ الأسماء, وعادَ يعتلي شيئا مما تعودَتْ رؤيته في زمنٍ طويل ولو كان قائمة!
بشكلٍ ما هو عاد ويُواسي الغريقَ في غرقِهِ عودٌ يُمسِكُه لكي لا يموتَ وحيدا.
أمسَكَت كلَ ما تملِكُهُ منه, “هداياه الثمينة” وراحَت تُقلِّبُها صعودا هبوطا وهي تدعو بحرقة…
ألا تنقطع الكهرباء!
______
-الرجالُ لا يجيدونَ تعريفَ الحبّ, ينكرونَ أعراضَه, يتحججون بكل العلومِ أنه لا يوجَد, يفسرونَ ظواهره بكلِّ العِلَلِ الفلسفية والدينية والسياسية والنفسية وحتى الرياضية! لكنهم لا يسمونَ أبدا ما يعيشونه حبا, لأن في الحب يضعف الرجال ومنطق الرجولة لا يقبل, لا يرضى, لا يتحمَّل, هم محبوبون فقط, هم يُعجَبون فقط…!
-في كلِّ مرةٍ يأخذه الحنينُ إليها ينغرِسُ في زوجتِه أكثر, وحدها زوجته من يسميها حبيبته, وفي قناعته وحدها هي من يحبها, لكن تلكَ التي كانت في كل محادثة تغير خارطة جسده وتسبب لقلبه الأزمات يسميها “خطيئته”, لذلك هو يستغفر منها الله مبتعدا عنها إلى ما هو بين يديه يصفه بكل ما لا يمكن أن يصفها به, لأنه لا يحق له..
ممنوعة تلك الجميلة, مستحيلة, وعلى أكثر تقدير هي “عزيزة” عزيزة لا أكثر لا أكثر ليس لأنها ليست كذلك, وليس لأنها لا تستحق لكن لأنه لا يستطيع أن يعطيها أكثر ولو “إسما” إسما يتردد في قلبه.. في قلبه فقط!
لم يكن يعتقد في حسبانه وفي أقصى احتمالاته وفي أسوء تقديراته أنه سيصطدم بامرأةٍ كالشهاب, زرعت ندبة في صدره وهو رجل الماء الذي لا يحترق, أشعلته وحولت دماءه براكينا, لكنَّها أخطأتْ حينَ حارصته بنيرانِها, فتجاوزتها المياه, كانت تغلي لكنها أطفأت منها الكثير, ما لم تتوقع هي في أسوأ تقديراتها أنه سينطفئ..
كانا نقيضين جمعتهما اللغة, وفرقتهما اللغة وما بعدَها!
افتقدها, ولم يعُد يكفيه أن يتلمسَ بريدَها البارِد, رحيلُها جعل من كل شيء بارِدا, وهذا العالمُ الأزرقُ كان بين أناملِها وشفاهِها شمسًا يُريحُهُ أن يذوبَ في إشراقِها, وينصهر في زوالِها, ويأفل في غروبها, وينسحبَ معها إلى حيثُ تذهب.. يرافقها في رحلةِ الاشتعال, فما الذي حدث حتى استهواه الظّلامُ وما عادَ يُطيقُ الضَّوءَ الذي تبعثُه, ولا الأماني التي هي تَحمِلُها..
-تِلكَ الشهابُ التي أقفلَ عليها سماءَه, أرادها أن تتوهَجَ بعيدا عنه, وما كان يدري أنه دونَها لن يعودَ سماءً, وأنها دونَه لم تعُد لامعة, متوهجة!
-أشتاقُكِ فلِماذا لم تُعلِّميني ألا أشتاقَكِ, وكيفَ تفعلينَ وأنتِ لم تبقَيْ بالقدْرِ الذي تُعلِّميني فيه إلا الدّفاع, يا امرأةً من حروب تُهاجِمُني, تُحاصِرُني, تشدُّ عليَّ الخِناقْ, لم أدعكِ تفعلين, لم أمنحكِ فرصةَ أن تكوني رهينتي وسبيتي وغنيمتي, لم أدعكِ تفعلين وكنتُ مندهشا وحين يندهش الرجال يرتكبون الحماقات, فأنا عشتُ عمري مُعلِّما لم أحتمِل أن أكون تلمِيذَ فتاةٍ لم أدَعها تُعلِّمُني كيفَ بعدَ رحيلِها أنساها؟ وارتكبتُ أكبرَ الحماقات فيكِ, أبعدتُكِ عني وأنا أعرفُ أني سأحتاجُكِ!
-نسيتُكِ, نسيتُكِ وفعلتُ الكثيرَ لأطمئنَ إلى أنَّكِ لن تعودي في قلبي نبضَهُ العنيف, وفي صدري أنفاسَهُ الملتهبة, فهل حقا نسيتُ وأنا كلَّ يومٍ أراجِعُ نسياني, أتذكَّرُ أني اقتلعتُكِ من حولي, وصارَ عالمي كئيبا, غريبا, هادئا, بارِدا, عاديا.. عاديا جدا كما تعودتُ وكما كنتُ أريد.. لا “أنتِ” تُمارسُ عليَّ فنونَ الإزعاجِ والاستفزاز والجنون! ولا أنتِ أجاهِدُ نفسي كي لا اُغادِرَها!
غادرتُكِ.. محوتُكِ.. حظرتُكِ.. أبعدتُكِ..
وأريدُ أن أعرِفَ ما تفعلين, مع من تتحدثين, إلى من صرتِ تكتُبين, وهل صوتُكِ بعدي لامسَ شِغافَ رجُلٍ آخَر؟ هل بعدي رجلٌ آخر جعلكِ تضحكين؟ وتقفزينَ على الأسرةِ وتفرينَ إلى النوافِذِ بحثا عن وجهِه؟, هل ما زلتِ ترينني في الوجوه, وتبكين وأنتِ تقرأين أدبي إليكِ؟ أما زلتِ تُعانقينَ الشاشةَ وأنتِ تنظرينَ إلى صوري, وتُقِّبلينها كما كنتِ تفعلين, هل ما زلتِ تستحين حين تُلامِسُكِ قصيدتي؟ وترتبكين؟ أريدُ أن أعرفَ أنكِ ما زلتِ تذوبين في نظراتي وتبحثينَ عنها وأعرفُ أنكِ تبحثين عنها, فأنتِ لا تتغيرين!
حينَ يقترفُ رجلٌ ذنبَ الحُبّ يُصبِحُ عاجِزا عن تشريعِ الأسئلة, رجلٌ له حياةٌ أخرى تقعُ خارجَ شاشةِ جهاز كلما فتحها انبعثت منها امرأة أخرى, تتوزَّعُ في كل مكان, أيضا في قلبِه!
-لي حياةٌ خارجَ شاشة هذا الجهاز كنتِ تخافين إن أنا أغلقتُها أن أترُكَكِ فيها ولا آخُذَكِ معي.. كنتِ تحبين الذهابَ معي في جيبي, جيبِ قميصي الذي يقعُ فوق صدري, فوقَ قلبي.. كنتِ تقولين لي أرجوكَ لا تتركني خلفَ البابِ وأنتَ تدخل بيتَك, أريدُ أن أكونَ معك في عالمِكَ الآخر, العالم الذي يوما ستتركني لأجله, لأنه يشبهك!
وكنتُ أتركُ قلبي معكِ, تسألينني هل قلبُكَ معي؟.. وكنتُ أجيِبُكِ “قلبي معكِ”!
فهل كنتُ أكذِب؟! أخذتِ قلبي فهل أنا كاذب! هل أنتِ فيه؟ هل هو فيكِ؟ هل أنتِ هنا لم تذهبي؟ هل أحببتُكِ؟ هل أحبُكِ؟!
هل ييأسُ الرجالُ هكذا, أم فقط رجلٌ تركَكِ تذهبين بقلبه؟ ترككِ تبكين؟ هو أنا!
-أردتُكِ قصةً جميلة لأنَّ القِصص في حياتي عادية جدا,بعدَ أن خرجتُ منها صارَت مملة, لم يكن فيها ما يميزها لأذكرها لكِ, أنتِ قصّتي التي منذ خرجتِ منها صارت حكايتي مملة, أنتِ ما يستحقُ أن أذكُره لكِ, لكنني لن أفعَل.. أعذريني لن أفعَل, فالواجبُ يقتضي أن أدركَ ما بين يديَّ.. ذلكَ العالمُ الملموس الذي يتحرك بأصابِعي وأديرُهُ بعقلي. أنتِ لا طاقةَ لي عليكِ لأنَّكِ أكبرُ مما أعيش, ليسَ لي أن أفكِّرَ بكِ إلا كمَلِكٍ عليه أن يقطعَ الكثيرَ من المسافاتِ والرؤوس ليصِلَ قلعةً سيموتُ قبلَ أن يفتَحها.. هكذا أنتِ حُلمي لا أقلّ.. ولستِ حبيبَتي بل ما أطمحُ إليه دونَ أن أصِلَ إليه..
ولستِ سِرًّا فأنا لا اُجيدُ إخفاءَكِ عن أحَد!
ورُبَّما لا أشبِهُ أحلامَكِ, لكنَّني أشبه الطُّرُق التي تؤدي إليها!
حينَ (يحب) الرجال يتصارعون مع المنطق وينازعونه, ليصلوا في آخر المطاف إلى أنه الحل الوحيد.. لكنه غلبَ منطقه وتنفَّسَ هذه المرةَ من قلبِهِ عطرَها الذي يفتقِد, وشوقَها الذي يتَّقِد, فالهواءُ يحمِلُها! يحمِلُها تِلكَ البعيدة في الرياحِ التي تأتي من بعيد!
هل هو الشوقُ أو نزعة الامتلاكِ ما دفعَ رجُلا يحب زوجته- لأنها في كل بردٍ تحتويه, لأنَّها أمُّهُ بشكلٍ ما, وبشكلٍ ما تفعلُ لأجله الكثير.. كل ما بوسعها لتجعله ينسى امرأة اقتحمت حياتهم السعيدة وقد فعَلَتْ أن ألقَتْ الجليدَ في قلبِ رجُلٍ مائي, جليدَ الضَّمير!- إلى أن يقتفيَ آثارَها في عالَمٍ لا يؤمنُ بمعطياته, ولا يصدق أنَّ ما عاشه فيه حقيقيّ, ألا يصدقَ أمرٌ طبيعيّ, لكنْ أن يطمئنَ إلى دوامِ قيامِهِ هو الأمر الخارج عن الطبيعة, هو الشيء الذي يجاوِرُ الخيالَ ويطلُّ عليه لكنهُ ينفي أنه موجود!
هو سكَنَ إلى ضميره وحظرَها, فهي ولو كانتْ ما يشتهي, إلا أنَّها ما لن يتركه أحدٌ يحصل عليها!
-فكَّ حظرَها فقد تعِبَ من تجاهلِهِ لأسئلة يريدُ ولو لأحدها إجابة!
فتحَ صفحَتَها.. أولُ ما واجَهَهُ صورتُها على الغِلاف,.. جميلة كأنَّها لم تعرِف حُبّا يجعلها تذبُل!.. شعرَ وكأنَّ شيئا قرَصَ قلبَه, إنها المَرارة.. الغيرة!
لم يكن في صفحتِها إلا ما تُريدُ لعامَّةِ الناسِ أن يرَوه, وهو لن يقبلَ أن يكونَ منهم لكنه لن يرسلَ إليها طلبَ صداقة..!
وتذكَّر أنها في الماضي هي من فعلَتْ!
ولم تكن لتفعل حتى وإن وجدتْ خيار طلب الصداقةِ يلمعُ في عينيها ويطرقُ في رأسِها..
تعلَّمَت أنَّها لترسَخَ في قلبِه عليها أن تأتيَه من حيثُ لا يعلَم!
واصلَ رِحلتَهُ في صفحتِها كلَّما فتحَ شاشةَ الجهاز, باحِثًا عنه فيها لا عنها هي, وكلَّما وجَدَ ما يُطمئنُهُ ركَنَ إلى عالمِهِ الحقيقيّ.. كانا معا قدَمانِ لعثرةٍ واحِدة, وجهانِ للوحةٍ واحِدة, كلُّ وجهٍ يُطِلُّ في اتجاه, حيثُ يتقابلان! حيثُ كلٌّ منهما ينظرُ إلى الآخرِ ولا يلتقيه!
ما بينهُما كانَ يقعُ وجها لوجهٍ مع الزَّمن, لكنَّ الحياةَ هي ما يقعُ خلفَ السَّاعة, في اللحظاتِ التي تسبِقُ اللَّحظة, هي كانت تسعى لذلك, وهو كان يُنكِرُه.
بينَ كلِّ اثنينِ التقياَ بين سلكين, تقعُ ذاكِرةٌ لا تُخطئ لكنَّها قد تخون..
بينَ كلِّ اثنين يجلِسان بين عالَمين, تقعُ الكهرباء!

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى