الليلة الأخيرة ..مسابقة القصة القصيرة بقلم / دنيا الماجرى من تونس
ارتدى بدلته العسكرية في حزم وأحكم نثبيت القبعة على رأسه في همة.. ألقى نظرة أخيرة مفعمة بالعزيمة والأمل الممزوج باعجاب طفولي على المرآة متفحّصا صورته المنعكسة عليها .. أضفى لمساته الاخيرة التعديلية ثم ألقى على كتفه ببندقيته الّتي صارت جزءا من نبضات كيانه المتقد عزيمة وإصرارا واتجه صوب الباب… كان فتى في مقتبل العمر , نضرا كزهرة يانعة، باسلا ,ذا قامة فارعة قادرة على مواجهة العواصف ومعاندتها فقداعتاد تحمل المشاق ومكابدة الآلام في شغف في سبيل الوطن. .حدج المنزل بنظرات ملتهبة وصافح بعينيه كل ركن من اركانه حين تناهى الى سمعه صوت حنون رخيم دافئ غمر روحه وداعبها في نعومة،:
-الى أين يا ولدي…أنت في اجازة ولم أشيع منك بعد
التفت في خفة وافتر ثغره عن ابتسامة رقيقة ورد في بصوت جهوري
أنّه نداء الوطن يا أمّي ..الجبال في الانتظار والمحنة لا تحتمل تأجيلا أو تأخيرا
ترقرق دمعة فضية في مقلتيها كستنائيتين المشعّتين حبا ممجوجا بالحزن والقلق ..
– أه يا قرّة العين ..متى يتحقّق حلمي وأراك عريسا …متى أراك محاطا باطفالك يتحلقون حولك وحولي كالبلابل المغردة تنشر الحبور والنشوة …
ارتسم الارتباك على وجه الأمّ الناعم الذي فعل فيه الزمان فعلته وخطّ عليه باصابعه تجاعيد تروي قصصا قديمة واسرارا عميقة لايام خلت لكنه لم تنجح في محو اثار الجمال منه وعلت ملامحها تعبيرات الخوف والقلق وارتجفت قامتها النحيلة التي طالما جابهت عواصف الزمن ولم تنجح في اذعانها واستسلامها وتملكتها رهبة والخوف على فلذة كبدها فاانفلتت منها الكلمات مستعطفة متوسلة :
-ابق معي يا ولدي …لا تتركني وحيدة فريسة بين براثن القلق والوحشة …اتصل بهم وأخبرهم أنّي مرضت فجأة وحالتي خطرة …ماذا عساك تفعل يا كبدي بين الجبال الملغمة بالعبوات النّاسفة والوحوش والارهابيين …أنظر حبيبي ..لقد اعددت لك الاطباق التي تحبها شربة شعير الّتي تحبّها والسّلطة المشوية حارّة كما تشتهيها والطّواجن وأنواع كثيرة مما تحب وتشتهي .. ابق بجانبي فقلبي منقبض ولا ينفك يطرق في عنف كأنّه ينبؤني بخطر ما يتربّص بك … ماذا عساني افعل وانت بعيد عيني وكيف لعيني وقلبي ان يحرساك من الشرور والأخطارالمحدّقة بك
مسح الفتى براحتيه دموع والدته المنسكبة على خذّها كزخّات مطر خريفيّ وهمس لها بحنوّ عله يهدهد نفسها المتوجّعة و يخفّف من حرقتها ووطأة القلق الّذي انتابها
– لا أستطيع يا أمّاه.. الوطن يناديني بكلّ جوارحه متأوّها وواجبي أن أذود عنه وأحميه فأنّى لنا ان نصمّ اذاننا عن نداءه.. لا اقدر يا غالية فعشقه يتغلغل في دمي الذي يهتف باسمه في صحوي ومنامي ويحثني “ان اطرد عن جفنيك النّعاس ..اطرد عنك مشاعر الكلل والسأم ..افن المخاوف وامنعها من حطّ رحالها على صدرك ..التحق بزملائك أيّها الأسد الحرّ وضمّ قبضتك لقبضاتهم الحديدية لتتّحد الدّماء وتتلاحم الأصابع وتصير قبضة واحدة تصدّ عن البلد فيض المخاطر وتحبط مخطّطات الأعداء .ثمّ رمق أمّه المرتجفة بتوسّلاتها بنظرة كلّها ثقة وحنان قائلا :لا تقلقي يا غالية فقلبك الطّاهر يرافقني في رحلتي ويصونني بدفئه من الأوغاد ..فقط لا تحرميني من دعواتك المباركة فهي ملاكي الحارس الّذي ينير دروبي الوعرة كالشموع المتوهجة ” .طبع الجندي قبلة حارة على جبين الوالدة و انطلق نحو المجهول ليعانق الجبال ويجابه المخاطر .كانت الأمّ تتابع خطواته والغصّة تخنقها بنظرات حيرى متألّمة الى أن غاب عن ناظريها بعد أن أوصد الباب في قوة اهتزّ لها كيانها وجعلتها تغرق في ابتهالات ودعوات لا يسمع منها الا بضع تمتمات مرتعشة “حماك الله يا ولدي..حماك اللّه يا كبدي ”
هاهو الجنديّ الشّاب يستأنف مسيره في عزيمة واصرار لا يثنيه خوف ولا تتخلل نفسه الحديدية رهبة.. يلتهم المسافات التهاما حتى لا يكاد يشعر بمشقتها وطولها الى ان تلتقي نظراته بنظرات الزملاء المتقدة فتتعانق الأيادي في حفاوة وحرارة ويزكبون الشاحنة الضّخمة الّتي انطلقت مهيبة كالسّهم تطوي الطّرقات طيّا في هدير يصم الآذان .الجنديّ يصافح الطّريق المألوفة بنظراته الشّاردة وأذا بالهاتف يرنّ فجأة تمتد أصابعه لالتقاط الجهاز في شوق طفوليّ مفعم بالحب واللهفة “الو من ” يتناهى الى سمعه صوت موسقيّ ناعم يدغدغ أوصاله ويبعث في روحه خدرا لذيذا
“هذه انا حبيي ..لقد غيّرت رقمي.. يقولون أنّ العروس يجب أن تغيّر رقم هاتفها قبل أسبوعين من الزواج كي تبدأ حياة جديدة.. اشتقت لك.. قل ما هاذا الهدير ألست في المنزل ” كانت هذه خطيبته الحسناء التي تعلّقت روحه بروحها وآسرة فؤاده البكر .يبتسم في سعادة عارمة أنسته مشقّة الطّريق والمخاطر التي تترصد به ويردّ هامسا بخجل مسترقا النّظر الى زملائه
-” أهلا بك يا روحي .. سررت بسماع صوتك .. كيف أحوالك وأحوال الأسرة الكريمة بلغي لهم سلامي اشواقي …كان بودّي لو متّعت ناظري برؤية محيّاك الصّبوح غاليتي لكنّي في طريقي الى الجبل …صوما مقبولا وافطارا شهيا
.يضطرب الصّوت الرقيق وتتغيّر نبراته ليكسوه الهلع :
-حقّا!.. بالله عليك لا تذهب، ألم تسأم أحضان الجبال الخاوية ؟ الخوف يقتلني حبّي ويعتصر قلبي.. أرجوك لا تذهب !
-سألاقيك بعد الإفطار لنزور بيتنا المستقبلي ” “بودّي ان ألقي نظرة فاحصة على عشّنا الدافئ لكن نظرتك تكفي انا واثق من ذوقك المميز ولمساتك الساحرة ثم انّ وطني يهتف بي ويستعجلني الحضور لأحرسه من مطامع الأعداء ومخالبهم الحادّة وأنيابهم المسمومة الڜرهة فكيف لي أن أخلف بوعدي وأنكث بيميني ..وطننا يستجير حبيبتي ..هل أستطيع الوطن؟ ” وينغلق الخط فجأة فتغرق الفتاة في موجة من الصّمت والسّكون وينعقد لسانها رهبة
كان يقف شامخا بقامته الفارعة حبن اخترق سمعه أصوات جهورية غريبة أربكت الهدوء المخيّم على الجبل ولوّثت نسائمه النّقيّة …أصوات تنفر منها النّفوس ..تلك الأصوات الّتي طالما أرّقت العباد وأقضّت مضاجعهم ..هاهي تحلّ غازية على الجبل الليلة فتحدث نشازا لطّخ نقاء جو الجبل المونق “الله اكبر..” …تعاظمت دقّات قلبه وأحس ّ بلخطر ..انّها أصواتهم أولئك القادمون من كهوف الشّياطين ..هذا شعارهم …اللّه أكبر والله منهم براء .لم يتوقّع هجمتهم في هذا الوقت الّذي يستعدّ فيه الجنود لبلّ الرّيق والافطار بعد يوم شاق من الصّوم .غادر مكان الحراسة واقترب من الثكنة بخطى ثقيلة كي يطمئنّ على زملاءه في الثكنة …يالهول ما رأى ..زملاؤه الجنود غارقون في شلاّلات دمائهم القانبة يعانقون بجثثهم المخضبة أديم الأرض ..كانت بعض الجثث تختلج وقد فصلت رؤوسها عن أجسادها والدّماء سواق فوّارة ..أحس ّبدوار عنيف خدّر أوصاله وقيدها لهول المشهد الّذي رآه ..همّ بالصّراخ لكنّه تماسك ..شيء ما تحرّك داخله وأخرس صوته .. ابتلع دموعه المالحة وعليها كان افطاره بعد يوم قاس من الصّوم ..سالت الدموع صامتة فبلّلت شفتيه المشققتين ثمّ ارتمى على الارض متماوتا وجمد في مكانه للحظات حبس خلالها أنفاسه المرتعشة الحارّة شعر باقدام ضخمة تصفع الأرض في زهو وغطرسة الصفعة تلو الأخرى وتدنس قداستها ..ارهف السّمع فتناهت اليه تمتماتهم وغمغماتهم السّامة:” الله اكبر لا الاه الا الله محمد رسول الله تخلصنا من أعداء الله يا إخواني سينصرنا الله”..شمّ الجنديّ باقترابهم منه رائحة الموت المنبعثة من ملابسهم وذقونهم الّتي ترتع فيها أسراب من القمل ..أغمض عينيه في محاولة لتجاهل اللحظات المرعبة وايهام ذوي الذّقون بموته فهاجمته الذكريات ذكريات وأطياف أحبّته ..كانت ترفرف حوله وتناغيه ..هاهو طيف أمّه وهي تفتح له ذراعيها وتهمس :تعال يا كبدي ..لا تخف ..أنا معك .وهذاطيف جدّه الوقور يتجلى في جّبته الفضفاضة ..في يمينه مصحفه الذهبي و أصابع يده اليسرى تتلاعب بحبات السّبحة ..كان جدّه طيّب القلب حلوالمعشر مملوءا بحب الله ومحيّاه يشعّ نورا زادته ألقا لحيته الناّصعة البياض الكثة الّتي كانت تضفي عليه هيبة كهيبة الصّالحين كان جدّه اماما في المسجد ..كان قويّا لكنه كان عطوفا وكريما يكره أخبار الحروب والدّماء ويرقّ فؤاده عند رؤية مريض أو مسكين.. تساءل بينه وبين نفسه ترى هل كان جدّي مخطئا في تديّنه ومسيئا في فهمه أم أنّ الدّين الّذي كان يدين به جدّي غير دين هؤلاء ..دين جدّي الّذي لقّنني تعاليمه هو دين محبّة وتسامح ورفق أمّا دينهم فهو دين ملؤه الحقد والشّر وعشق رائحة الدّم…. كان يحلّق في أجواء التساؤلات والذكريات فجأة شعر بألم شديد في يده اليمنى حين داسها أحدهم بنعاله القذر وبدأ يضغط بقوة كي يتأكّد من موته تحامل على نفسه وعضّ لسانه كاتما ألمه الى ان ازيحت الرجل وخفّت وطأة الالم لكن حدث ما لم يكن في الحسبان .. رجفة خفيفة لاارادية صدرت عن رجل الجنديّ كانت كفيلة بكشف امره وجعلت الوحش يلتفت نحوه ويعود أدراجه ثم ينقضّ عليه كضبع مفترس قتلت داخله كل مشاعر الانسانية وطغت عليه الغرائز الحيوانية وجوعه للنهل من الدماء الطاهرة …استلّ خنجره وبسمل وكبّر وبدأفي حزّرقبة الجنديّ وقطع شرايينها .. الله براء منكم يا كفرة يا زناة الدماء ! كان الجندي يواجه سكرات الموت الاخيرة وبرأسه المجتثّة يعبر جزء من شريط حياته كحلم بعيد ضبابي ..لهوو مرح تدريبات.. قهقهات ااخلان واصواتهم المؤنسة لوحشة نفسه.. نظرات امه المشعة حنانا تدثر روحه ..بسمات الحبيبة العذبة التي طالماكانت بلسم جراحه تراقص اوتار مشاعره في عالم العشاق الوردي وتروح عنها ..ارتجفت شفتاه وتلعثمتا ..كان في شكل حركتها البطيئة ما يوحي أنه يحاول النّطق بالشهادتين أو ربما هي صرخة كتمتها الشرايين المقطوعة وسيول الدّم المتدفّق منها نحو الفم …ربّما كان يريد أن يستجير بأمّه ويقول “طالت روحي يد الغدريا أمّي .. اغتيلت احلامي يا امي فلا تبك يا والدة الشهيد ولا ترتدي ثوب حدادك فابنك حي يرزق في جنة الابرار ..لا تبك فروحي ستبقى خالدة في عالم الطّهارة والسّمو وتنبعث فينا لتطرد عنّا الخنوع والكلل وتحرس رقادكم من ذئاب اللّيل المتربّصة .. لا تبك فحبيبك حبيب الوطن وفيه ذاب عشقا ووهبه نبضاته قربانا
انطلق صوت المؤذن الرّخيم ينبئ بحلول موعد الافطار ورغم عذوبته لم تستسغه الأم وأحسّت بوحشة كما لو أنها سمعت صوت عويل … تتالت السّاعات وكيانها يتأجج ويضطرم ويلتهب دون ان يردها اتصال من فلذة كبدها يثلج نفسها ويخمد حرائقها ..فجأة هبّت ريح قويّة مزمجرة رغم شدة الحرّ ..ريح انقبض لها فؤاد الوالدة وارتجفت لها..كانت تلك هي اللّحظة الّتي فاضت فيها روح وحيدها وقرّة عينها ..انتفضت الأم واختلجت أوصالها وراحت تغلق النّافذة في تشاؤم وقلق وعادت لمجلسها أمام التّلفاز لتقف جامدة وقد قيّدت الكارثة أوصالها وجلدتها جلدة أفقدتها حركتها …القناة الوطنية تعلن الحداد والسّواد يطغى على الشاشة .. مقدّمة نشرة الأخبار تنعى فريقا من خيرة ضباطنا وجنودنا وتروي تفاصيل غدرهم و اغتيالهم وذببحهم قبل الافطار بقليل …ألجمت الصدمة قدرتها على الحركة وراحت تخادع نفسها مردّدة :لا ابني ليس معهم ..اخرسي ايتها المذيعة …ابني ليس معهم …ابني لا يموت .فجأة تناهى الى سمعها أصوات نسائيّة ..كانت أصوات جاراتها وقد أتينها بالخبر اليقين وقد علا بكاءهنّ وعويلهنّ وهنّ يحتضنّها في لوعة وشفقة بعد أن سمعن بفجيعة ذبح الجنود التي كان جارهم وابن عشيرتهن واحدا من ضحاياها
.