ط
مسابقة القصة القصيرة

حدث بالفعل .مسابقة القصة القصيرة بقلم / عادل محمد فودة من مصر

عادل محمد فوده
جمهورية مصر العربية
قصة قصيرة
0096896308809

قصَّة قصيرة

( حدثَ بالفعل )

سمعتُ خبراً عكَّرَ مِزاجي وأربى حنيني إلى الشيشةِ جلوساً على مقهى الرصَّافة بالإسكندريَّةِ أنفثُ مع دُخانِها همِّي ,أضواءٌ خافتة تتسرَّب من المحالِ التُجاريَّةِ المُتواضعةِ على جانبيِ الشارعِ الضيِّقِ الذي أقطنُ فيه , فتُضيءُ بعضَه وتتركُ باقيه لتلتهمَها سُدفةَ ليْلٍ دامسٍ غاب عنه القمر , غبتُ عن وعيي للحظاتٍ أتدارسُ مع هواجسي ذاكَ الخبَر الذي لتفاهتِه لم أعد أتذكَّرُه حين انتشلتني من ذهولي واستغراقي ضجَّةٌ تعالى فيها صراخُ النساءِ وهمهماتُ بعضِ الرجالِ أمامَ أحدِ حوانيتِ البقالةِ على مبعدةٍ منِّي , حثَّ فُضولي خُطايَ نحوهم فبصرتُ شاباً فتيَّاً , طويلَ القامة , مفتولَ العضلات , في ثوْرةِ أسدٍ نهشَ الجوعُ حشاه فيما ملصت من براثنِه لتوِّها طريدتُه , اشتففتُ من هيْئتِه وفُحشِ سبابِه ومُقذعاتِه أنَّه يمتهنُ “البلطجة” , يفرُّ ويكرُّ ويرغي ويزبدُ مُربدَّ الوجه مُحاولاً اختراقَ درعٍ من أربعةِ رجالٍ بلغوا أرذلَ العمُرِ يحفون حول امرأةٍ بُغيةَ حمايَتِها منه , أجذمتُ على أن أمضي إلى غايتي غيْرَ مُلقٍ لهم , فمنذُ أن رُزئتُ بانزلاقِ فقراتي القَطَنيَّة وأنا أتحاشى مواطنَ العراكِ والشجار , ولكنِّني لم أستطع هذه المرَّة , وجدتُ ساقايَ تسحباني على رغمي لأنضمَّ إلى زُمرةِ الرجالِ وأسدَّ فَرجاً بيْنهم, فيما يُحاولونَ جاهدينَ تهدئةَ تلكَ الكُتلةَ العضَليَّة الثَّائرة التي لا يُدرِكُها كلالٌ ولا يُصيبُها مَلل , لمحتُ سكِّيناً يُطِلُّ من جيْبِ بنطالِه الخلفيِ ولكنَّه لم يُشهرْه لغايةٍ في نفسِه , فاستخدامُه على الأرجحِ ضدَّ امرأة, ينالُ من هيْبتِه ويحُطُّ من مكانتِه بيْنَ أترابِه المُجرمين , ولكن حينَ تصلُ فورةُ غضبِه أناها سيتخيَّرُ لا محالةَ من بينِنا من ينفثُ في وجهِه نارَ غيْظِه المُتَّقدة , وعندها لن يجدَ خيراً منِّي مخافةَ أن يُلامَ على ضربِ رجُلٍ مُسِنّ , وسوست ليَ نفسي الجبانةُ بالرحيل , فالعراكُ معه لا تخفى عواقبُه على من جافتهم الفطنةُ أو من أصابهم خُبْل , ولكنَّ خاطراً تحكَّكَ بعقلي فدسَّرَ قدمايَ بالأرض وحجاهما عن الفرار , فالهروبُ شهادةٌ توثِّقُ جُبني وتدحضُ كلَّ شكٍّ فيه , جبنٌ يوصمُ نفسي بعارٍ رذيلٍ سيبقى يُعيِّرُها بي لأمَدٍ غيرَ قصير , ولن تُجدي الحُجَّة المعهودة بأنَّهما قد يكونا زوجيْنِ أو أخوينِ أو ما شابه وليْس عليَّ الإقحامُ فيما لا يعنيني , في لحظةٍ ما بيْن كرِّه وفرِّه تخطَّيْتُ بنظري حدودَ المكان, فلاحظتُ انفراجةً على مقربةٍ منَّا , خمسةُ رجالٍ ذووا أيدٍ ومُنَّةٍ خرجوا لتوِّهم من المسجدِ في جلابيبٍ بيضاء , اجتاحني الإرتياح وتنفَّستُ الصعداء فانضمامُهم إليْنا رِدءٌ لا يُستهانُ به وآلةُ ردعٍ ستحملُه لا ريْبَ على الذهابِ بلا رجعه , لمَّا آيس من بلوغِها, هرعَ إلى درَّاجتِه النَّاريَّة المُتَّكأة على الحائط , أدار مُحرِّكَها وانطلق بها إلى نهايةِ الشارع , اعتقدنا عبثاً أنَّ هذا هو جُلُّ ما انتهى إليْه الأمرُ حتى سمعنا زمجرةَ المُحرِّك تتسامى شيْئاً فشيْئاً حتى بلغَ مداه حين دنا منَّا , كان فقط يبتعد ليُكسبَ درَّاجَتَه أقصى سرعةٍ ثم توجَّه بها نحوَنا, فحطأ بثلاثةٍ منَّا أرضاً لم أكن من بيْنهم , وإن كنتُ فلم يكن لينتصبَ عمودي الفقرِي ثانيةً كما قاموا هم سالمين , رشقتُ الرجالَ أمام المسجدِ بنظرةٍ أتفقَّدُهم فذُهلتُ لرؤيتِهم لا يُحرِّكونَ ساكناً , يُشاهدون فقط في صمتٍ حالُهم كحالِ النِّساءِ تُطلُّ رؤوسُهنَّ من شرفاتِ المنازل تأنسن بذاك المشهد الضارع, ومن عجب أن يجدن فيه أُنساً أو سلوى, ليْتهم ذهبوا أو انشغلوا بالحديث عنَّا , يشاهدون فقط ولحاهُم تتخطَّى حدودَ صُدورِهم, وسيماهُم من أثرِ السجودِ تعلو جباهَهم , تعجَّبتُ لتركهم إيَّاها في حمايةِ زُفَّةٍ من الطاعنينَ في السِّن ضدَّ وحشٍ ثائرٍ واكتفائهم بمتعةِ المُشاهدة , استثنيْتُ أن يكونَ السببُ أنَّها مُتبرِّجةٌ ترتدي فستاناً ضيِّقاً يشِّفُ تفاصيلَ جسدِها , ينحسرُ عن ركبتيْها ويفضحُ صدراً نافراً غضَّاً , لأنَّها لم تكن كذلك , كانت مُتَّشحةً بالسوادِ من أعلى رأسِها لأخمصِ قدميْها , وجهُها يتخمَّرُ بنقابٍ وقدماها ويداها في جواربَ وقُفَّازات, تتوه نواتؤها في طيَّات لباسها الفضفاض, ذهبَ ثانيةً واعتقدنا أنَّه سيكرُّ بذاتِ الطريقةِ فدلفنا إلى داخلِ المحلِّ نتدرَّعُ به من هجماتِه الإنتحاريَّة , لكنَّه لم يعدْ ونزعَ إلى الحصار , فربض في أوَّل الشارعِ يترقَّبُ مللاً يتسرَّب إلى نفوسِنا , وبالفعلِ أثمرت خطَّتُه حينَ انفضَّ من حولِها النَّاس ولم يتبقَّ سوايَ وصاحبُ الدكَّان, فنظرتْ إليَّ نظرةً فهمت مغزاها قبلَ أن تقولَ مُتوسِّلة
– ممكن توصَّلني لحدِّ أوِّلِ الشارع ؟
تدفَّقَ الأدرينالينُ إلى دمي فتسارعت دقَّاتُ قلبي , تريدُني الآنَ أن أُحاربَ وحدي , تردَّدتُ لبرهةٍ وعيونُ النِّساءِ ومن تبقَّى من الرجالِ مُصوَّبةً نحوي تستجدي ردَّاً , زلقت قدماي ولاتَ حينَ مناص , لم أجدْ منها مهرباً فبترتُ الصمتَ بالموافقة , ملتُ بها إلى شارعٍ جانبيٍّ يُفضي إلى آخرٍ أكثر إضاءةً يعجُّ بالنَّاس , تتقدَّمُني وأنا في رِدفها أُراقبُها تارة, وأتلفَّت يمنةً ويسرة تارةً أُخرى كلصٍّ هاربٍ من الشُرطة , نزغَ ليَ شيْطاني أن أكتفيَ بهذا القدرِ من الشجاعة وأتركها وأذوبُ في الزحام , بيْدَ أَنَّ هرمونات النخوة والرجولة اندفعت في شراييني وبدَّدت الفكرة , التقطت عدستاي في تجوالِهمِا صديقاً يتسكَّع, يُردِّد الطرف بين معارض المحال بلا هدف , فزعقت به بلهفةِ غريقٍ لم يتبقَّ على موته سوى حشاشة مُحتضر , لم أُخبرْه بالحقيقةِ فأنا أعرفُه جيِّداً, إن آذنته بتفاصيل الرواية فستُختَلقُ الحججُ وتُنتحل الأعذار, فلشد ما يكره الأشقياء واللصوص, ولذلك حكايةٌ عشت نفسي بعضاً من أحداثها حين تخاوش جنباه عن مهجعه فصحا في الهزيع الأخير من الليل على صوتٍ كالنقر, فأرهف مسمعيْه ليتبيَّن مأتاه, ثم فتح النافذة ليجد لصَّاً يتسلق أنبوب الصرف الصاعد بطول البنيه من المنوَر, ولو علم ما فتح ولا طلّ, إذ دبَّ الرعب في قلب اللص فهبط من فوْره وعلى عَجَلٍ بعضاً مما تسلَّقه من الأنبوب حتى صار من الأرض على مرمى ذراعيْن ثم قفز وأختفى في غمضة عين, هذا ما يُفترض أن يحدث ولكن القلب الذي دبَّ فيه الرعب كان قلب صديقي فيما لم تتحرَّك للصِّ عضله, إذا حاشيْنا عضلات عنقه حين عقفها نحوه بهدوءٍ كأنه يؤدِّي عملاً معهوداً قائلاً بصرامة بعد أن قطب وجهه
– صباح الخير يا أستاذ, ولا كأنك شفت حاجة, ادخل انت ارتاح عشان شغلك الصبح, وسيبني أشوف شغلي
كان الِّلص من ذات المنطقة فحاول صديقي أن يتحاماه ولكنه راح يبتزُّه ويستنزف ماله كلما رآه وكأنما هو من ضُبط بجرم السرقة المشهود وليس اللص, وما زال حتى ضجَّ منه وسئم رذالته, فطلب إليَّ أن أبحث له على شقَّةٍ مناسبة بالقرب منِّي في منطقة مُحرَّم بك, ففعلت ولم يهدأ له بال حتى انتقل إليها, وجدت نفسي أُكاتمه أصل ما حدث مخافة أن أجدَ نفسي وحيداً كرَّةً أُخرى في قلبِ الإعصارِ الهادِر , وفجأةً تعالى أزيزُ الدرَّاجةِ يمتطيها ذاتُ الوَحش قادماً من بعيد , بلغها فجنأ إليْها واستوقفها فدنوتُ منه وقلتُ له بشيءٍ من الحزم
– احنا في الشارع ودي ست محترمة, ما يصحِّش كدة
لم يرثم أنفي بقبضةٍ مُغلقة ولم يستلَّ سكِّينَه ويرسم على وجهي تذكاراً يحتلُّ به ذاكرتي ما حييت , ولكنَّه فقط , باستثناءِ نظرةِ احتقارٍ عابرة , لم يُعرني انتباهاً , تجاهلني كأنَّني كائنٌ شفَّافٌ لا يُرى بالعين المُجرَّدة , ثمَّ قال لها بصوتٍ أجشٍّ مُهدِّداً ومُلوِّحاً بسبَّابتِه في الهواء
– هجيلك بكرة بالليل …فاهمة والَّا لا ؟
هزَّت رأسَها بالموافقة قبلَ أن ترحلَ وينطلقَ هو قافزاً بدرَّاجتِه كحصانٍ يثبُ فوقَ حاجز, وتركاني أنا وصديقي هو يسألُ وأنا أقرعُ كفَّاً بكفَّ
– هل ما فهمتُه صحيحاً ؟…
على أيَّةِ حالٍ فقد خرجتُ من تلكَ الرِبقةِ بمكاسبَ كثيرة, أقلُّها أنَّني بلوْتُ شجاعتي , لم تكن تعمل بكاملِ طاقتِها ولكنَّها تعمل , وأوسطُها أنَّني نسيتُ ما كان يُؤرِّقُني , وأكبرُها أنَّ صديقي دفعَ ثمنَ الشيشةِ وفنجان القهوة على بخلِه وشُحِّه , ولو طلبتُ عشاءاً ما عزَّ حتى أُجاليه بما استبكم عليه من الروايةِ وأشفيَ فضولَه الذي كان أكثر ما يؤده ويُسقمه.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى