ط
مسابقة القصة القصيرة

فى صحتك .مسابقة القصة القصيرة بقلم / عبد الكريم الساعدى من العراق

عبدالكريم الساعدي
قاص
العراق- بغداد
الإيميل/ [email protected]

في صحتك / قصة قصيرة

ما بين الكرسي الهزّاز والكرسي المتحرك مسافة دهشة، يتماوج الأمس مجرّحاً بمرايا لا تكاد تلمح فيها سوى ظلّ بقايا امرأة، يحلّق الأسى فوق رموش عينيها، يداها الناعمتان ترتجفان، تمسكان طرفي الكرسي المتحرك بشدّة، تحاول أن تستدير نحو اليمين، يصفعها موج التذكّر، تفزعها ضحكته، هي ذات الضحكة المجلجلة في أقبية المجهول، ضباب كثيف، دخان حرائق، عيناها تعاودان الترتيل، تحدّق في ملامح الصدفة، يساورها الشك، الكرسي الهزّاز يتعاطى الصمت،
” هذا المسخ الجالس فوق الكرسي أعرفه، قبل سنين كنت أعرفه، لطالما أقام أعراسه على رماد القتلى”
الزمن يبتلّ بالتوقف، تنتصب ظهيرة الأمس عند حافة الرعب، تنطفئ مرايا الأحلام، يتجلى جنونها صراخاً يملأ أزقة المدينة، المساء يحمل وجه العزاء، لا شيء غير لافتة سوداء تحمل بقايا قمر أفل قبل أوانه، لقد رحل مع الراحلين. تقطب حاجبيها، يرتسم العبوس على محياها، تضيق مساحة الرؤيا، تحدّق مرة أخرى في ملامحه، لم ترَ غير وجهٍ كالح، يقطر كرهاً حتى اللحظة الراهنة. الساعة المعلّقة على الجدار، خلف الكرسي ترتبك دقّاتها، تتغلغل في تجاعيد الخراب، عقاربها تتخذ شكل علامة استفهام حانقة، اللحظة ملغومة بالجنون، تطمر بين ثناياها دوائر مغلقة، مشفّرة، تنتصب ظهيرة الأمس عند شرفة مظلمة، لحظة مخيفة، رجلٌ أعرج مترهل، يلتهم أحلامي البريئة، يخادعني، يلقي بجثته فوق الكرسي الهزّاز، يتجاهلني، يرشقني بتساؤلات غائمة، فتيات يصدرن صراخاً في غرف متجاورة، أتطلّع إليه، أتضاءل في منفاه، تطاردني عيناه، يتلذّذ بمفاتني الذاوية، يمارس حضوره، أتشاغل بثباتي، أجاهد إغراءاته، يستشيط غضباً، يصرخ في وجهي، ينهض من فوق كرسيه، يلغي المسافة الممتدّة بيننا، يداعب خصلات شعري، يمرّر أصابعه فوق خصري، أجفل في سعة من الاستغراب، يقف خلفي، يدسّ أنفه في عنقي، تخنقني أنفاسه الكريهة، يحاصرني طغيانه، يمسك شعري بقوة، يشدّه للخلف، يحسم أمره:
– عليكِ أن تعترفي.
– ولكنّكَ تعرف أنّي بريئة.
– إطلاق سراح زوجك مرهون بك.
تجاهلت مستنقع الرذيلة، ادعيت البلاهة. في تلك الظهيرة المدجّجة بظلام الكون كنت طيراً مكسور الجناح، نجمة غطّاها سحاب الاحتضار، تجفّ أوراق شجيرة الأمل عند ابتسامة هازئة، كلّ شيء معدّ سلفاً للاحتفال بجسدٍ أرهقته المخاوف. يطلق خيول شبقه، أختنق بأنفاس الوحشة، يتهدهد لعابه في كأس خمر، يتسلّق ظلّي المحتمي بزوايا غرفة يلفّها الظلام، يصفعني الصوت:
– في صحة عفتك.
” يا لتعاستي، من يفكّ حصار ارتباكي؟ أما من أحد يسمع صراخي؟”
انتظار موحش، الصدى يرتدّ، يختبئ في تجاويف زمن متخاذل، أحلام بريئة في مواجهة سياط مشحونة بالنباح، أتساقط في حظيرة خنزير، أتطاير في الفراغ، تلفّني العتمة، أتبعثر في مدار خارج عن مساره، جسدي المتّشح بجواهر العفة، المتوهّج بأحلامه العاطلة، يتقلص حياءً، يتوارى تحت دثار الفجيعة، يختبئ في شرخ المجهول. لن أنسى تلك الظهيرة حين شُيعت براءتي على هدب الخراب، ألملم شتات كوني، أرتدي صراخي، مكسوة بدموع الأسى، أنسج فضاءً من عويل، أعتلي رهبة المكان مبتلّة بطقوس من جنون، يطلق سراح جسدي المختنق بالخجل، أتوسّد رصيف الوجع، مختبئة خلف ركام من قلق فادح، عيناي معلقتان بدربك، لعلك تأتي؛ فأتدثّر بهمسك، وأتخذ من دفء عناقك ملاذاً، ها أنا أتبع ظلّك، أبصرتك عن قربٍ حبيباً ينسج خمار الكبرياء، أتلو ما تيسر من وجعي المكبوت لعلّي أحضي ثانية بالحضور، وتخلع ثوب الفضيحة، لكنّ الجرح يكمل دورته، يطفح بجرح آخر حين اشتعل المساء بضجيج رحيلك، ينهكني غيابك، انطفئ، تحتلّني وساوس التغريب بعدك، يسير بيّ الدرب بين محطات معتمة، لها مذاق الخيبة، أدخل مواسم الوجع وحيدة، أحمل أساي على ظهري كحدبة ناقة، متّكئة على ساق الجنون. منذ سنين يطوّقني زند التيه، يرسمني مثابة للعزاء، أتصحر في كرسي متحرك، مكتحلة بأحزان أزقة مقفرة، تنشد عهداً يشهق موتاً كلّ حين.
اليوم، وبعد حين من العذاب، يصفعني ذات الصوت مرة أخرى، لكن على غير عادته:
– تفضلي، هل من خدمة؟
المكان غارق بترف باذخ، مكتبه الجديد متوهج بالخديعة، مسبحته السوداء، تتراقص بين السبابة والإبهام، أحدّق فيها هازئة، فإذا بها هراوة تسعى في الفراغ، يملأني الحنق، أغلي بالانتقام، أتطلع إلى وجهه، ما زال ينبض بالكراهية، أتعثّر بظهيرة الأمس، زمن ملوّث بالقهر والخداع، مصفرّ حدّ الغثيان، أنزع جلد الصبر، أتقيأ خوائي،
” أنّى لهذا الكرسي أن يحتضن ذات الجلاد على رغم تعاقب الفصول؟ ”
عيناه تنفرطان استغراباً، ينشقّ الصوت خفيضاً، يتغافل سطوتي، أفقأ عين السرّ: – أتذكر تلك الظهيرة حين رسوت على مرافئ عفتي؟
أتهجّى مخاوفه، يمتطي سبيل الخفاء، يعزف على وتر بعيد، عيناه تلهثان بالعمى:
– ما كان عليكَ أن تتركني لأعيش.
كان كلّ شيء يتساقط أمامه، حتى الطيور المحلّقة في اللوحة القابعة فوق الجدار، تبدو نافقة، تنقبض ملامحه، تهتزّ فرائصه، يتوارى خلف أعذار واهية، تجتاحه نوبة هلع، يسقط طريح الكرسي، يتوقف نبض الاهتزاز، يتولاني شعور بالبطش، أضغط بقوة على كأسي، هو ذات الكأس الذي أسقاني ذلّ الهوان، لكنّه لم يكن خمراً، كان حريقاً معتّقاً بالوجع، استحضر كلّ مراسيم دفني، أضحك بشكل هستيري، أغرز أظفاري في عينيه، أسملهما:
– في صحتكَ، في صحة عرشك.
أتعمّد بفيض الثأر وبصراخه اللاهث خلفي، أترك بصاقي على قارعة التوسل، وأمضي في سِنَة من عطش.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى