ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : دبيب . مسابقة القصة القصيرة بقلم / آية السيابي . سلطنة عمان

دبيب
مسابقة القصة القصيرة
آية السياب ..سلطنة عمان

قالت لي أمي يوما كنتُ فيه أعتدّ بقوّتي أمام أضعف مخلوقات الله في أرضه، وأنا في الخامسة من عمري: “لا تؤذ الذرّ، واطلب من الله أن يمنحك ساقا بصيرة لا تهدم بناءً ولا تسحق روحا.” كانت أمي ناصحة ومحذّرة. ولكنها نسيت أن تعلّمني كيف لا أحقد على قبيلة النمل أجمع.

أنا لا أحمل كثير مودة للنمل، ربما لعقدة نشأت لدي منذ بواكير طفولتي، كنت أشعر أنه نهم وله بطن جائعة على الدوام، يسخّر إمكانياته جميعها لأعماله التي لا تسكن. عارية مشاعره إلا من خوف استوطن إحداهن عندما صاحت بقومها تحذرهم من سليمان وجنوده. يسخر مني هذا الذرّ. يتربّص بي. يقتنص الفرص منتقما مني وآخذا بثأر آبائه الأولين الذين سحقهم حذاء طفولتي وأنا مغتبط بقوّتي وأثرها في فوضى شتاتهم وإصابات بعضهم بين أعرج ومتردٍّ وميت، بانتظار مراسيم توديعه. ها هو قد اقتصّ مني يا أمي اليوم فما ترين إني فاعل به.

تتدفق الذكريات بيسر إلى الإنسان، بل تتربص به وتقتنص الفرص لتسلل إلى قلبه والنّيل من سكونه الهش.

كبرتُ، وحان وقت التفتيش عن مستقبل في فجاج الأرض الواسعة وما تتيحه الحياة من الفرص. ودّعتني أمي باكية، محذّرة، ناصحة ومحفّزة:

  • عساني رافعة راسي فيك يا حبيبي وترجع لي بالشهادة العودة

  • ادعي لي اشتغل في وظيفة زينة وأوعدك يا أمي ما يبقى في خاطرك شي الا اخذه لكم انتي وابوي. ابني لكم بيت ونتوسع ان شالله

  • ما اريد منك الا اني اشوفك مرتاح وازوجك واشوف عيالك

وكعادة قلب أمي الحنون. تناولني ما حضّرته لي منذ أيام. خبزٌ وتمر وعلبة البسكويت التي أحبها منذ صغري. مدهشة هي أمي. تقبض على التفاصيل الصغيرة لي التي لن تعيرها نساء الكون أهمية إلا أمي. لأنها تمسّني. ولأنني قطعة من جيبها انزلقت.

كانت قطع البسكويت على شكل أحرف، فكل قطعة تأتي على هيئة حرف باللغة الانجليزية. ارتبط بي منذ الطفولة، تحبّ أمي أن تناولنيه متيقنةً بأنني سوف لن أنسى الحروف في كل مرة أقضم فيها قطعة منه.

في الطريق، تناولت البسكويت باستثناء قطعتين أبقيتهما، ولم يطاوعني قلبي على قضمهما. هما القطعتان اللتان جاءا على هيئة حرفَي الميم والحاء، الحرفين الأولين من اسمَي أمي وأبي. أمي وأبي هما النخلتان الشامختان، الباسقتان، الأبديتان في حياتي. لففت قطعتي البسكويت الأثيرتين بمنديل وضممتهما في حقيبتي الصغيرة. فأنا لا أمتكل الجرأة على قضم أي شيء يصلني بوالدي الحبيبين. سأحتفظ بهاتين القطعتين لآخر لحظة في حياتي.

هجرتُ أحبائي هجرة اختيارية، نتقاسم فيها معا أحلام المستقبل. هجرتهم سنين عددا طامعا في شهادة ومستقبل يليق باسم أبي وفرحة أمي. ثم يأتني هاتف جائر يذكّرني بالهجرة الحقيقية التي اعتقدتُ مخطئاً أنها لن تصيبني يوما. وهنا كان قدري، حزن غائر في قلبي. وتيقنت بأن الموت، هجرة قديمة قِدم التاريخ والسر الأعظم لديناميكية الحياة واستمرار الوجود. هو هجرة المادة إلى العدم، تبخّر الروح إلى اللاشيء، ورحيل الذكريات إلى الفناء. وجب على كل روحٍ تدبّ فوق هذا الكوكب أن تجرّب هذه الهجرة. في تجربة ملزمة لا تخضع للمساومة وخط سير لا رجعة فيه. غروب تطلبه الروح وتدنيه منها بالقدر الذي تنفر منه وتتجنبه. مفارقات غريبة لا تفسير لها. تشبه غموض الوجود الذي احتار فيه العلماء وأرق الفلاسفة عبر العصور. وها نحن من الصفر بدأنا وإليه نعود. كلّ السرّ يقع بين رقمَي الصفر والواحد. يشبه سرّي الذي يقع بين حاء وميم. وها هما أمي وأبي يرحلان دون أن أراهما، وأنا بعيد أفتش في الغربة عن مستقبل مجهول.

ثمة حنين عظيم يشدني لأمي التي طواها دبيب الزمن تاركا في قلبي غصة وحزنا لا ينتهيان. عشقي لأمي متدفق لا ينتهي، رغم إيماني بأن كل الأشياء تبدأ من لحظة انطلاق وتنتهي إلى نقطة يتحتم فيها الرحيل. وكل عشق ينتهي في فصله الأخير إلى غياب. أخوض اليوم غربتي وحيدا مكسورا، يمزقني شوق دائم لوطني البعيد الذي يحمل رائحة أمي واسمع في هوائه صوت أبي. كم أشتاق أن أسند رأسي على كتف والدي المعطر برائحة الأرض، وأن أستلقي في حض أمي وأشم رائحة الحناء في كفيها المخضبين بالدفء والحنان.

قلبي معفّر بالحزن الدفين. حزن لا تفهمه الغربة هنا. وتجد نفسك أنت غريب حتى في حزنك ملتفا بغربتك. لا شيء يربطني هنا بأمي وأبي سوى قطعتي البسكويت اللتين تحملان حرفي اسميهما “حاءٌ” و”ميم”. هما آخر ما دسَّته يد أمي في جيبي. فتشتُ منديلي الذي حفظت فيه قطعتي البسكويت العزيزتين، فإذا بهما قد اختفتا ولم يبقَ منهما سوى نثار قليل ملتصق بالمنديل. لقد التهمهما النمل الجائر. لقد كان لدي حدس مبهم منذ الطفولة بأنني لا أحب هذه الكائنات الشرهة. تبا لها .. ها هي تطوي أعز ذكرياتي الجميلة في بطونها وتغادر غير آبهة بما ارتكبت من جرم عظيم في حق إنسان وحيد ومكسور. ها هي تواصل دبيبها فوق منديلي المستباح.

أطل الآن من نافذة غرفتي على شارع مكتظ الضجيج، أشاهد دبيب الحياة وصخب العالم. أتذكر ذلك الفتى الذي وقف يودِّع أمه الحزينة أمام باب المنزل العتيق، هي تخفي دموعها ببسمة ثابتة، وهو يحمل حقيبة صغيرة تضم بعض حاجاته للسفر، ويحمل الكثير من الأحلام المؤجلة.

أستلقي برأسي على المقعد وآخذ نفسا عميقا كأنه زفرة مكلوم حزين، ويحتشد في رأسي دبيب صاخب من الأفكار والمشاهد والذكريات، لا يقطعه سوى دبيب قطيع من النمل يعبر جدار الغرفة الساكنة!

 

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى