ط
هنا الأردن

قصة قصيرة بقلم الكاتب عبد السلام الإبراهيم

مكتب الأردن
منال أحمد الحسبان

جميع من في الصف يرهفون السمع، يستجدون جرس الفرصة، إلا أنا فالأمر سيان عندي،لا مال لدي لأشتري مثلهم،وعروس الزعتر في حقيبتي تنتظرني باسترخاء لأنتقي زاوية قصية قرب صنابير المياه، اسعف حلقي بشربة ماء إذا غصصت بلقمة.
ما كان يؤرقني ألحاح بعض رفاقي لألعب معهم، فأعض على وجعي وأركض وأتقافز لأجاريهم، فلا ترتضي نفسي إلا الصدارة في كل عمل.
هيهات أن يجاريني أحدهم في الصف، أنتظر حصة التعبير بفارغ الصبر، يلتهب جوفي بالنشوة والكبرياء وأنا أرى الاستاذ جورج يمسك دفتري ويمر على رفاقي صارخاً:
انظروا لهذه التعابير والجمل المترابطة، كشبكة الصياد، تعلق بها العقول والأفئدة، بل دعكم من التعابير انظروا إلى الترتيب والأناقة، صفقوا لزميلكم، صفقوا بحرارة.
هذا الأمر جعلني محط إعجاب جميع زملائي، يحاولون التقرب مني، لكنني كنت ذكياً ولئيماً بما يكفي لأوقف الفضوليين عند حدّهم، زيارتي في منزلي خط أحمر لا أسمح به، وأبذل في سبيل ذلك كل الحجج والأكاذيب.
حتى جاء ذلك اليوم الرهيب، اتذكره بدقة متناهية، كالكابوس المؤرق الدائم التكرار، دخل الأستاذ جورج الصف وأبتسامة خبيثة مقتضبة ترتسم على شفتيه الدقيقتين، ونظراته تتجول بين وجوهنا وكأنها تبحث عن شيء ضائع.
أخبرنا أن ادارة المدرسة قررت اجراء مسابقة بين شعبتنا والشعبة الثانية، وعليه أختيار خمسة تلاميذ يمثلون الشعبة في المسابقة، وحدد لها يوماً مشؤوماً.
حاولت كثعلب صغير محاصر أن أجد ثغرةً، دون جدوى، وقع عليّ الإختيار وحذرني الأستاذ جورج من التغيب بعد محاولاتي المستميتة للتهرب، فقد أدرك قلبي الصغير بحدسه الحكيم ما ينتظره من ألم وجرح غائر.
في اليوم المحدد، دخلت قاعة الأنشطة الواسعة مع رفاقي، متقد الحواس، مهزوز الجوف، كنملة ضئيلة مرتعبة علِقتْ بين أقدام حشود غفيرة من التلاميذ والأساتذة.
حاولتُ إمساك حبال شراع نفسي بما تبقى لدي من عزم وقوة لتمر عاصفة روحي بسلام، نجحتُ في البداية وأجبتُ على أسئلة سرعة البديهة التي طرحها مدير المدرسة بتلذذ طالباً منا الإجابة بسرعة قصوى، بينما يتعالى تصفيق وهتاف التلاميذ بعد كل إجابة بجو يسوده الحماس والتوتر والمنافسة.
لم ولن أصدق أن الصدفة وحدها جعلتْ ذلك المدير الغبي يباغتني بذلك السؤال التافه، وأي حظ شقي جعله من نصيبي ولم يجعله من نصيب أحد رفاقي الأربعة الآخرين، ولماذا كان السؤال الأخير والحاسم للنتيجة.
_ كم أصبعاً في جسدك؟
_ عشرة، رددتُ دون تفكير وبنبرة عالية، وكأني أرد صفعة مباغتة بصفعة سريعة مقابلة وأشد مباغتة.
_ خطأ، عشرون أصبعاً في جسد الإنسان، خسر فريق الشعبة الاولى.
صحوتُ من غفلتي على وقع هذه الكلمات وقهقهات رفاقي- ألا يمكن لأرض هذه القاعة اللعينة أن تنشق لتبتلع الجميع- وقعتْ نظراتي المُحرجة الهاربة على عيني الأستاذ جورج كان قد زمّهما بنظرة عتب أو استهجان أو أحتقار، لا أعلم ما اسمها ولكنها كانت جارحة ومميتة.
بعد كل ما عانيته من ألمٍ ووجعٍ وأنطواء لإخفاء نقصي، هاهي الأقدار تحيك لي فخاً محبكاً، حولني من مخلوقٍ مشوه بلا أصابع أقدام إلى مخلوقٍ غبي و مشوه بلا أصابع أقدام.
لعقتُ جرحي وعدتُ لأضيف سراً آخر إلى صندوق أسراري الأسود اسمه ( المسابقة). ْ

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى