ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : كمائن للتلصُّص . مسابقة القصة القصيرة بقلم / محمد غزلي من المغرب

كمائن للتلصُّص.

قصة قصيرة. محمد غزلي من المغرب.

الثانية والربع ينقلب الجو في عز الصيف. يقف الكاتب قريبا مني صامتا. يزيح بقدمه كومة تيكيت ملابس مرمية على أرضية الرصيف، ثم يجلس هاتفا من أعماقه: يا إلهي، كم أعشق هذا الدفء، كم أعشق التسكع في المدينة القديمة وأرصفتها.

كان كل ما يجمعنا الرواية والقصص وإبريق شاي وحديث طويل نملأ به المساء، نجلس بالساعات عند رصيف الأشجار المقطوعة، المكان الذي نجد فيه كراتنا الضائعة، يوميا يتحول الشارع إلى سوق كبير يغرق فيه المارة، نسبة كبيرة منهم نساء، لا نستطيع أن نغض الطرف عن التحديق في أطرافهن. أحيانا يوسوس لي إبليس بترك الكاتب يداعب مفاتيح بيته بين أصابع يديه وأتمنى لو أشاركهن اقتحام الزحام في الممرات الضيقة.

(ش.ع) كاتب قصير القامة، بوجه مُربَّع وشارب كثيف، ورأس مملوء بالتراث الشفوي والنكت والسخرية وأشياء لا أعرفها، لأنه ببساطة لايريد أن يتحدث عنها، ليس لأنه مثقف أخرس من النوع الذي تسأله عن شيء فيسبِّق لك اللاء ليرتاح؛ لا أعرف، لا أدري، لا أعلم. يبدأ الحفلة بوجه مرح. الوجه الآخر الجادّ يتركه في مبنى الأكاديمية لتذوق الفن والفلسفة والتراجيديا. إنه يجلس هنا للصيد. لست فضوليا أفتش عمّا لايعنيني في الرجل، لكنني أريد أن أعرف مع من أجلس. ماكان يعانيه الرجل على الطوار هو جو المدينة المتقلب صيفا، كأننا نعيش في جزيرة عارية وحيدة تتجاذبها تيارات هوائية بحرية عنيدة مملوءة بالضباب والغبار، البرودة والصدأ، الرطوبة والملح. تكون مرتديا تيشورتا خفيفا مستمتعا بحرارة الشمس الطافحة ونعومة الظل حتى يتقلب الجو الى درجة الصفر بغتة، يتحول الدفء إلى لعنة برد باردة، تتخدر ذراعاك من البرد وأنت تلبس قميصا عاري الذراعين لم تكن تحسب للتقلبات حسابا، يجمِّدك ولو كنت مُسخِّنا أجهزتك الداخلية بكؤوس رفيعة من النبيذ النقي، في هذا الجو لانستطيع أن نمارس هوايتنا في الحكي بتلقائية، فكل ما نفعله أننا نتسلى، نتحدث، نناقش، لانؤذي أشخاصا بنقاشاتنا، يمكننا مناقشة أيّ شيء، حتى الله، نناقش فيه ولا نؤذيه.

الرابعة عصرا، نستدعي القَهوجي الطَّوَّاف، في وقت قليل يحضر الإبريق، نضع كؤوس الشاي بيننا على الأرض، لا منضدة خشبية محترمة، لاهدوء، لا كراسي وثيرة تشعرك بالراحة النفسية، لاسيدي بوزكري، لسنا هنا في مقهى فندق. حتى وأنت تحاول أن تحافظ على هدوءك تستفزك جريمة الصوت المرتفع جدا للموسيقى المنبعثة من قيسارية النصر، أصوات غنائية مقززة يطلقونها لجلب الزبائن، كأنهم يتعاملون مع زبائن من الحجارة عبارة عن جمادات لا تقتني شيئا إلا بمكبرات الصوت. سبعة آلاف واط من الضجيج في الثانية، لأجل أن يثبتوا للزبون أن عندهم سلعا حقيقية مصنعة في أوربا واليابان وروسيا وكندا، وحقيقة الأمر تكتشفها بكل سهولة من أول متجر غارق بمنتجات عادية مجلوبة من قيسارية “الشينوا” الشهيرة. لا يمكن أن تصدق أكاذيبهم حتى ولو كنت مجرد حيوان لعين فكيف ستصدقهم وأنت بكامل قواك العقلية. لكن العقل الذكي يمكن أن يكون حمارا غبيا غائبا عن الوعي تحت تأثير رغبات جسد مكبوت.

(ش.ع) يسمع ضجيج الموسيقى ويتذمر:

– مال هاد لمساخيط مصدعين العالم.

– سيد (ش)، كما تعلم هؤلاء لايهمهم أن يتبول العالم في سرواله حتى، المهم أن يأتي الزبائن فحسب.

نُقهقه. تمر فتاة طويلة وممتلئة ، نكبِّر ونصلي على النبي ونقهقه، يجدها الرجل فرصة ملائمة للتعليق على الجسد الممتلئ:

– الْعيد الْكبير هاد العام، كاين لْمليح، كاينة السمونية آبـَّامحمد. نقهقه.

بائع الطيور البلاستيكية والقِردة وفتيات القوة ولُعب الأطفال يحدق بقهقهاتنا وينسى أن يبني لطيوره البلاستيكية أعشاشها التي لا يمكن أن تبنيها بسبب فقدان أرواحها الميتة. المفروض أن يدخل سوق مُخّه ويغرس عيونه في فَرَّاشته الخاصة، عليه أن يغرس لقروده البلاستيكية أشجارا بلاستيكية مناسبة تقفز عليها وتأكل الموز المزيف. ربما كنا نبدو له كأناس عواطيل عن العمل يتمنون امرأة تحسن فن المداعبة وسيارة سياحية مُشِعًّة ومنزلا مطلا على شاطئ سيدي بوزيد نحظى فيه ببعض الوقت، ببعض الحياة الرائعة، نحظى فيه بطاولة من المشروبات التي تضبط الأدمغة وتصعد بها إلى السماوات، وطاولات أطباق أرانب مشوية عائمة في مرقها الأنثوي، وأسماك ومحار وطيور ناضجة باللحم. حسنا، فليتوهم فتى الألعاب مايريد، فلم تكن لنا حاجة في هذه الأشياء. إننا نتواجد هنا نبني فخاخا لامرأة مثيرة فحسب.

نلعب لعبتنا، حتى لايصيبنا الاكتئاب، نلعب لأننا بحاجة إلى المرح. يستغرق الوضع وقتا جيدا لانتوقف فيه عن الضحك. هاهو سيد (ش) يحاول أن يجرني إلى القهقهة بصوت يشبه الفضيحة لكي نبدو للعالم أننا منسجمان ضاحكان لاعبان آكلان شاربان:

– سي محمد، الآن، من الأفضل أن تلتفت، ستدوخ إذا نظرت إلى الأعلى، لاتحرك رأسك مباشرة، التفتْ بعينيك فقط، حركهما ببطء جانبيا إلى زاوية العين نحو الأسفل.

كان الرجل في قرارة نفسه يعرف أن النساء تجذبْننا نحو الأعلى، نحو الصدر الأعظم، بينما نحن نبحث عن الأسفل، أما لو صادفنا امرأة تلبس تنورة قصيرة وضيقة فإننا ننجذب مباشرة إلى ما خلف أسفل السافلين، ثم نبدأ الاكتشاف من الأسفل ونستمر في الصعود نحو منصات الجسد العليا حتى نستقر أخيرا بشُرفة الصدر المطلة على البحر وهناك نعشق النوم.

يمد السيد (ش) يده إلى كوب الشاي لمرة أخيرة ويتجه بعينه إلى ذات عنق مكشوف ويبتسم كما هي عادته في إثارة انتباهي، يحاول أن أتابع التحديق.

هكذا كان الوقت في المساء ملائما لنحدِّق، لنسجل أهدافا دون أن نفكر في نظرات مراقبي الشرط، نسوق مراكبنا بسرعة جنونية دون أن نربط أحزمة الأمان.

كنت استمر وحيدا إلى أن يأتي الرجل فيطلب مني قبل أن يجلس وبصوت بوليسي ساخر شَفْطَ فَرَّاشتي من الشارع:

– أنت تساهم في تدمير البلدية، أنت قاطع طريق وتحتل الملك العام. تخالف القانون، اجْمع هاد الشيّْ من الطريق وحيَّد علينا من هنا. يقول ذلك السيد (ش) بعينين غاضبتين قبل أن يضحك بصوت كفيل بأن يجعل دقات قلبي تنبض مئة وعشرين نبضة في الدقيقة، لأنه لا أحد يعرف درجة الخوف التي يزرعها رجال قوات البلدية المتوحشون وهم يستولون على أرزاقنا.

لا أتذكر أنني كنت أقول له “مرحبا” في كل مرة يهددني بالطرد من الرصيف مازحا، لاشيء مهم، سوى الكثير من الدردشة، يتشابك الحديث لوقت طويل، كما في مسرحية طويلة جدا لاتعتمد على تتبع خط زمني مضبوط، لانهتم للوقت، كان كل شيء يمضي بنا بشكل عفوي. نعرف نقطة البداية، نستمر في التحديق المُريب إلى أن نفقد طريق العودة، وعندما نصل إلى نقطة اللاعودة يجتزُّ السيد (ش) قطعة من فطيرة الْمُسمِّن أو يرتشف ما تبقى في كوبه من الشاي مُبديا تذمره من برد الصيف ويقول: إني كرهت الطقس، المكان غير مناسب لتنصيب الكمائن، يجب أن ننصب كمائننا في مكان آخر، سأنسحب. ثم يطوي فِخاخه وينسلّ.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى