ط
مسابقة القصة القصيرة

ما لا يخبّئه الرّصيف..مسابقة القصة القصيرة بقلم / عبد الله الحلاق من سوريا

عبد الله الحلاق
سوريا – دمشق
00963 933270096
( قصة )
ما لا يخبّئه الرّصيف
ما كان من خيار أمامي سوى متابعة المسير رغم الخوف الذي يدقّ مساميره في قدمييّ المرتعشتين ، في هذا المكان الموحش المألوف على حدٍّ سواء !
وعلى الرغم من اختناقه بكثرة الأجساد التي تعجّ فيه لكن طرقاته – بشكل ما – تبقى فسيحة وكأنها أعدّت خصيصاً لتجوبها قوافل اليمن لما كان سعيداً والشآم قبل ميلاد الجرح ، الأشياء هنا تخادعني .. وكأنها في حفلة تنكريّة .. أدرك أني أعرفها لكني لا استطيع ان اميّز متى عرفتها أو أين !
لم يصرف تفكي
ري عن كل تلك الغرابة الممتدة من حولي سوى عطر أمي الذي يفوح من دمعات خُرزت على ياقة قميصي دون علمي .. أمي .. لم لا أجدك معي الآن ؟ كم احتاج أن أدفن عاصفة افكاري في دفء يديك ، ما كانت الأفكار شتويّة كما هي الآن يا أمي .. أمّاه لا تتركيني .. استحلفك بالعطر الذي أراد أن يشقّ عباب الهواء لأول مرة .. فأبحر من جيدك !
ولست أدري إن كان عوزي المفاجئ لجرعات الأمومة هو من هرع بي إلى امرأةٍ ينام في حجرها صبيٌّ صغير ، كنت قد رأيتها على بعد خطواتٍ مني .. أو أميالٍ ، لم تعد ساقاي تذكر ، كان شعرها الكثّ ووجهها المتّسخ يشي بأن الفقر نجح في الإيقاع بينها وبين صنابير المياه .. وثم تصدّق عليها فيما بعد بالخرق الملونة التي ترتديها وأسماها ثياباً ! كانت تمسح على رأس الصغير النائم بطريقة غريبة ومبالغٍ بها , والطفل ذو البشرة المتآكلة يبدو وكأن الشّمس قشّرته بأصابعها اللّاهبة لكثرة ما تمدّد تحتها على سرير الرصيف الاسفلتي دون غطاء الظل ، سألتها بشيء من القرف دون أن ابتدئ بسلامٍ حتى : ” ما هذا المكان ؟ أين أنا الآن ؟ ” .. رفعت رأسها نحوي وأجابتني بهدوء : ” لا أدري .. وصلت إلى هنا منذ قليل وأخبرني أحدهم بأنها .. ماذا كانت ؟ .. اجل اجل .. محطة انتظارٍ كونية ” شعرت بأنها مجرد امرأة ساذجة لكنّي اضطررت إلى سؤالها مجدداً لحاجتي الملحة في صفع الأسئلة التي تنبش لحمي بحثاً عن جواب ، فقلت وقد ازدادت حدّة صوتي ” وأنت .. كيف وصلتِ إلى هنا ؟ ” فقاطعتني قائلةً ” لا ترفع صوتك سوف توقظ أحمد .. المسكين لم ينم منذ عدة أيام لكثرة ما بكى .. يا وجع قلبي عليه ” وعلى الرغم من أنها لم تكن تحمل شيئاً تبيعه إلا أنها قالت ختاماً .. ” اشتري مني علكة .. ارجوك ” عندها أدركت أن طريق التفاهم بيننا مسدود .. كما أنّي شعرت بالشّفقة على الصغير النائم وأمّه تستمر في مسحها الغريب على رأسه وكأنّها تريد أن تكنس من ذاكرته تلك الأيام المبلّلة بنحيبه !
فآثرتُ أن أدعهما وشأنهما وحينما هممت لأدير ظهري .. شرخَ صوتها قلبي لما رفعته متوسّلة : أرجوك سيدي .. لا تدعهم يعيدوننا إلى المخيم .. المكان هنا لطيف .. لم أعد أشعر هنا بالجوع ابدا ”
مضيت وأنا أحسّ رأسي ينسحل بين جدار وجعها الخشن .. وجدار قلقي الأخشن ، وقبل أن ينفجر في الاحتكاك الأخير .. رأيت على مقربةٍ مني شاباً في مقتبل العمر بدا في خطواته الشّاردة وكأنه تائه عن قوم موسى منذ أن تاهو أربعين عمراً بين كثبان المتاهة ! اقتربت منه بسرعةٍ وباغتّهُ بسؤالي ” مرحباً ، أيمكنك إخباري فضلاً عن اسم هذا المكان ؟ ” ، أدار وجهه إليَّ وكانت أحدى عينيه محمرّةً مثل قرص الشمس حين يسقط في كأس البحر المالح ، ابتسم في وجهي ابتسامةً خريفية وقال ” صدّقني لا أعلم .. أنا هنا مثلك .. أبحث عن اجابة ” وفي نظرة خاطفة مني لما يحمل في يديه .. استرعى انتباهي كرّاس غارقٌ بين بقع الشاي والقهوة ، وقلم عتيقٌ مهترئ وكأنما كل نعوات شرقنا الحزين قد كتبت به ! .. ودون انتباهٍ مني صعد سؤالٌ غبيٌّ إلى فمي ” أيوزّعون أقلاماً ودفاتراً هنا ايضا ؟! ” .. اجابني وكأنما رفع سؤالي الرداء عن عورة تخجله ” لا .. لا ، هذه تخصّني ، لا اعلم كيف جاءت معي إلى هنا .. كل ما أذكره أني كنت أحاول كتابة بعض واجباتي قرب بضاعتي المعروضة على الرّصيف .. وفجأة دوى انفجارّ عنيف .. ثم صحوت لأجد نفسي هنا ! ”
الآن فهمت .. ليس شمساً ما يطل من عينه الدامية .. قد يكون تذكاراً متشظيّاً تركه الانفجار فيها ليوثّق مروره بها ذات حرب .. حتى ذلك الكرّاس لربّما كان آخر ما تبقّى له من غرفته العارية ، والقلم المهشّم .. علّه يذكّره بنافذة البيت بعد أن اغتالتها رصاصة سكرى إبّان النزوح العظيم !
وقبل ان أنطق بأي شيء قطع بغتةً حديثي معه صوتٌ هرم يقول ” لا تجزعا .. انتما الآن بين يديّ الله ، فبعد الموت كلّنا نعود إلى الدالية التي قَطفتْ منها الحياة أرواحها .. هاد البرزخ ياما ” .. التفتنا الى مصدر الصوت وإذ بها عجوز يزيد وجهها هرماً عن صوتها لكثرة ما حفرت فيه اظافر العمر من خطوط وتضاريس .. لم أتصوّر يوماً قبل أن أراها أنّ العظام تستطيع التعامد على بعضها كما في أضلاع الهندسة ! كان ظهرها شديد التقوّس بشكل يثير الاستغراب !!
تابعت العجوز كلامها دون ان تنتظر اي رد فعل منا ” لكنّي سعيدة بوجودي هنا .. فمنذ أن سرق مني الموت عائلتي وأنا ادعو رب العالمين أن يجمعني بهم ، والحمد لله ان استجاب دعائي .. فلا انا عدت بقادرة على حمل وجع فراقهم .. ولا مفاصلي عادت تقوى على برد الأرصفة ”
المسكينة لا تلاحظ أن الحِمل الذي جثم على ظهرها .. ترك فيه أثرا لا يزول .. ذاك التشوّه العجيب يجعلك تظن أنها حملت فوق اكتافها كل اجساد من سبقوها في رحلة الموت !! لا شيء يبدو أقرب الى المنطق وأبعد عنه سوى هذا التفسير !
إذن انا ميت الآن .. أشعر أني أمام ميزانٍ عظيم .. جثّتي الباردة في كفّة .. وهذا البؤس الذي ملأني كزجاجة غبية في الكفّة الأخرى , لا فرصةَ لخبر موتي أن يرجح الآن وهذا البؤس يفوق بؤس علاقاتي الغرامية المتعددة الفاشلة , والمسلسلات التي تسمّرت امام شاشاتها طويلاً , وضياع قطة بيتنا الصغيرة أيضاً !
متى نبت كل هذا البؤس ؟ .. بين الأزقة .. بجانب حذائي الأنيق .. حول بصري .. وتحت وسادتي !!
أكل هذا البؤس نبت في نومي الطويل ؟؟!
ومن بئر تفكيري العميق .. انتشلني أزيز الرصاص الذي أتى من وراء جدار كان بجانبي .. جدار ثخين بما يكفي ليحجب أصواتنا ، وبعيد بما يكفي لتغشاه عيونهم ، وفجأة دخل المكان رجل جديد .. لمحت في الليمون المعرّش على وجهه ذات الخوف .. وقرأت في كتاب عينيه الرطب ذات السؤال ” أين انا الآن ؟
_ تمّت _

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى